
ازدحام يخنق الحياة في تعز
لم تعد شوارع تعز مجرد طرق للتنقل، بل تحولت إلى ساحات حرب يومية، لا يُرفع فيها السلاح، بل تتداخل فيها الأجساد والآلات في صراع مرير من أجل فسحة متر واحد.
في هذه المدينة الصابرة، حيث يفوح عبق التاريخ من بين أنقاض الحاضر، لم يعد المرور سهلاً، بل مغامرة محفوفة بالمخاطر. عليك أن تكون يقظًا كصائد في غابة كثيفة، عين تراقب الأمام والخلف، وأخرى ترقب الأسفل، خشية أن تنبثق دراجة نارية مسرعة من العدم.
أما أصوات المدينة، فقد تحولت إلى سيمفونية نشاز، بطلها أبواق السيارات المتزاحمة، كل سائق يرى في مركبته أحقية الأولية، ضاربًا بعرض الحائط صبر الآخرين. وتزيد الطين بلة تلك الحفر والمطبات المنتشرة كفخاخ منصوبة، تعرقل المسير وتجبر العجلات على سلوك دروب لم تخطط لها. وحتى السيارات الواقفة على جنبات الطرق بطرق فوضوية، تساهم في هذا الاختناق المروري، لتكتمل صورة العبث.
تعز، المدينة الجريحة، ترزح تحت وطأة ازدحام خانق، هو أبعد ما يكون عن مظاهر الازدهار. إنه عرض لواقع أليم، قصة نزوح وبحث عن بقاء. فمن مناطق الحوبان التي تكابد قسوة مليشيا الحوثي، يتدفق الناس نحو تعز المحررة، لا طمعًا في ترف زائف، بل بحثًا يائسًا عن أسعار أقل قسوة بجيوبهم المثقوبة، عن سلع أساسية تلوح كطوق نجاة في بحر من الغلاء. هنا، يصبح سعر كيس السكر أو غالون الزيت حكاية حياة أو موت، والمدينة المنشودة ملاذًا مؤقتًا من قسوة الأيام.
لكن هذا التدفق البشري يحول شوارع تعز إلى شرايين متصلبة، تعيق تدفق الحياة الطبيعي. الدراجات النارية، بضجيجها الذي يمزق سكون اللحظات العابرة، تتداخل مع خطوات المارة المرهقة، في مشهد عبثي يلخص فوضى الواقع. بشر وعجلات ومتاع قليل، الكل يتزاحم على مساحة ضئيلة، كأن المدينة تحتضر اختناقًا بساكنيها، تلفظ أنفاسها الأخيرة في زحام خانق.
ومع كل وافد جديد، تتسع دائرة الضغط على الخدمات الهشة أصلاً. الماء شحيح ، والكهرباء حلم بعيد المنال يداعب الخيال، والصحة تئن تحت وطأة الأعداد المتزايدة، عاجزة عن تضميد كل الجراح. أما النظافة، التي كانت يومًا عنوانًا للحضارة، فتتراجع أمام جحافل القادمين والساكنين على حد سواء، تاركة المدينة تستغيث بصمت، لكن صدى استغاثتها يضيع في ضجيج المدينة اليومي.
في هذا المشهد الموجع، تبدو السلطة المحلية كشاهد عاجز، كسول يتعمد الإهمال، غير قادرة على استيعاب هذا النمو السكاني المفاجئ. غياب التخطيط يلقي بظلاله القاتمة على كل شيء، تاركة السكان يواجهون مصيرهم فرادى، يتشبثون بمجيء غد أفضل.
بين أنين محركات الدراجات النارية وهمسات المارة المتعبة، ترتفع صرخة مكتومة، مطالبة بحلول عاجلة. يريد سكان تعز حياة كريمة، خدمات أساسية تحفظ إنسانيتهم، وتنظيمًا يخفف من وطأة الازدحام الذي يكاد يخنق مدينتهم.
تعز اليوم ليست مجرد بقعة على الخريطة، بل هي قصة إنسانية تتجسد في كل زاوية شارع، في كل نظرة قلقة. الازدحام ليس مجرد مشكلة مرورية عابرة، بل هو عرض لجرح أعمق، يستدعي التفاتة جادة وتحركًا إنسانيًا عاجلاً. على السلطات المحلية ومجلس القيادة الرئاسي أن يستمعوا إلى نبض هذه المدينة المثقلة، وأن يمدوا لها يد العون. ففي عيون سكانها، لا يزال هناك بريق أمل ينتظر من يوقده.
المصدر أونلاين