الخراب الصامت
أكثر محافظة تعرّضت لعملية تخريب صامت هي "إب"، أصابتها الجماعة الحوثية بلوثة باطنية لن تُشفى منها طوال عقود كثيرة قادمة. لم تخض إب حربا ظاهرة؛ لكنها كانت عرضة لخراب سري وتفسّخ باطني أشد. من يعرف إب، هذه المدينة الوديعة والهادئة، سيرى أنها تبدّلت بصورة واضحة.
إب قبل دخول الحوثي تختلف كليا عن إب بعد أن سطت عليها الجماعة. ليس صحيحا أن إب مدينة خانعة، هي مدينة تميل إلى السكينة، وتلك فضيلتها، فيما استكانتها، تهمة ولدّتها الجماعة الغازية. لقد جاء الحوثي وقلب معيار الأخلاق كليّا، صارت المدن الجانحة للسلم متهمة بعار الخضوع، والجماعة المتأهبة للسطو اكتسبت صفة البطولة. هذا المعيار المختل هو العار بذاته، وليس العكس.
او أننا في زمان محترم لحازت إب صفة البطولة في أذهان الناس، صفة المدينة النزيهة وقد تعرّضت للتشوية دونما سبب. ما تعرّضت له إب أكثر مما تعرّضت له صنعاء. أحكَم الحوثي قبضته على صنعاء، ووجد أمامه مجتمعا ذا طباع متقاربة مع ذهنيّته، ما قلّص من أثر الخرق فيما كانت إب عُرضة لتغيير جوهري أحدثته الجماعة في مختلف مظاهر الحياة فيها.
من الأفكار البديهية في فلسفة الحروب، أن الحروب تغيّر من طبائع المدن المسالمة بأكثر ممّا تفعله مع المدن ذات الطبيعة الحربية، أعني المجتمع المدرّب على النزاعات الواسعة. وهنا يكمن الفرق بين محافظات الشمال، التي اجتاحها الحوثي، ثم لمجرد إخضاعها، عادت إلى طبيعتها المعروفة. بخلاف إب، لم تقاتل الحوثي، لكنها تفسّخت بشكل يتجاوز أثر المدن، التي خاضت الحرب ضده، سواء تلك التي صدّته أو من تمكّن من إخضاعها بالقوّة. خاضت بقية المدن حروبها، وبما جعلها خاضعة لأضواء متعددة، تراقبها وتحاول لملمة جروحها، فيما إب بقت تتعفّن بهدوء، تعيش حالة سلم ظاهري، وفي أعماقها تستشري الكارثة.
ليست الكارثة في سطوة الحوثي على إب؛ كسلطة غير مشروعة. هذه كارثة نعم، لكن ما هو أشد فداحة هو الخراب الباطني وحدوث تصدّعات وشقوق في عمق مجتمع المدينة. لقد أصبحت إب مرتعا خصبا للجريمة، أشبه بمجتمع مفخخ من الداخل. هذه ليست تنجيمات غيبيّة، يمكن لأبسط مراقب أن يستعيد سجل الجرائم في مختلف المجالات، وطوال سبع سنوات، وسوف يُصاب بالصدمة حين يكتشف أن إب تتربّع على رأس المدن اليمنية في منسوب الجرائم الفردية والنادرة.
لا يمكن أن تكون هذه المظاهر والشواهد محض صدفة، هي إفراز طبيعي يعكس وجود فساد ينمو، ويتمدد في كل الاتجاهات داخل مدينة إب. خليط من الدسائس والدوافع المريضة، ولوبيهات لجرائم منظمة ومتفرّقة. كلها لم تهبط من كوكب علوي؛ بل صعّدت من أحراش وبطائن مجتمع واقع تحت سلطة غريبة، وبلا أخلاق.
الخلاصة: لا أعني بحديثي السابق شيئا غيبيا له علاقة بتوجساتنا المسبقة من جماعة الحوثي؛ بل بالأثر الخفي والكلي لطريقتها في إدارة المحافظة، وقبل ذلك استباحتها. لم يبسط الحوثي سيطرته على إب، ويفرض عليها سلطته بشكل متناغم مع ما كانت عليه، بل تعمّد إجراء تغيير جوهري في كل مفاصل المدينة، وبشكّل أربك مجتمعها، وزاد على ذلك وقوع المدينة، في منطقة وسطى، بين جغرافيتين متحاربتين، تعز من جهة، ودمت والضالع من جهة أخرى، ومؤخرا الحديدة بشكل طفيف، وهو ما فتح الباب أمام حشود من النازحين دخلوا المدينة، وتسبب الأمر بتحويل مجتمعها، لفضاء خليط من كل الأطراف، وهو ما ضاعف من خصوبة المجتمع لكل أشكال الجريمة والتحلل، ولا أريد بذلك اتهام النازحين مطلقا، بأنهم عناصر إخلال، فهم مواطنون مثل بقية مواطني المدينة، لكن ما جعلهم مثل غيرهم -بما في ذلك مواطني المدينة نفسها- عناصر مؤهلة لكل السلوكيات الصادمة، هو الحدث المتمثل في احتياح المدينة من قِبل الحوثي وطريقته في إدارتها، كما تفضلت سابقا.