مونديال قطر وأمجاد العرب

جزيرةُ عربية صغيرة، أعادت للعرب قبسًا من أمجادهم..هناك ما هو أهم من الفوز أو الخسارة، إنه المعنى الذي تُصدِّره للعالم..من نحن، من هو الإنسان العربي.. أي وزنٍ نمثله وسط هذا العالم الرهيب والمعقّد..؟ قبل كأس العالم كان العالم يسير معتدًا بذاته، لا يكاد يرى سوى نفسه، أنظاره مركّزة نحو المستقبل وإن التفت إلينا لا يرى من بلاد العرب، سوى " محطة نفط" يتزودُ منها بالوقود ويمضي. جاءت قطر وقالت لهم : نحن أكبر من مجردِ بئر للنفط. 

"من قطر إلى الإنسانية جمعاء" حين نطقَ أميرُ قطر هذه الجملة. لا أدري لماذا تذكرتُ مُفتتح رسالة النبي محمد، وهو يراسل ملوك العالم، وها نحن نخاطبهم اليوم ولو بصيغة مختلفة. عرفت قطر مداخل العالم الحديث وتسللت من منافذه الملائمة؛ كي تُجبرهم على التوقف معنا. 

نحن أمة من البشر، لها وجودها الخاص، ميراثها وأحلامها، وبمقدورنا أن نقول للعالم كلمة جديدة.. هذه المنطقة من العالم لم تقل كلمتها بعد. نحتاج فرصة؛ كي نقف أمامكم ونتحدث، هناك ما نعدكم به على مستوى القيمة والمعنى مهما كان واقعنا بائس ومحطّم. فشلنا العملي؛ شوّش وجودنا المعنوي؛ حتى صرنا في نظر العالم حشود غجرية لا تفقه من معاني الحياة شيئًا. 

"وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا" أن تصدَّح هذا الآية في مفتتح المونديال، آية من النّص المؤسس لوجودنا، يُصغي لها نصف سكان الكوكب. هذا موقف باعث للزهو. حتى الملحدين العرب؛ يليق بهم أن يحتفلوا به. لقد صار لنا حدث نعرِّف به أنفسنا أمام العالم، موقفُ جاد وليس مجرد لهو عابر للتسلية. 

منذُ القرن الثامن عشر، لم تعد أوروبا والغرب يتوقفون؛ كي يفتشوا لدينا عن شيء، معرفيًا وأخلاقيًا يعتقدون أن ليس بوسعنا أن نفيدهم بأي معنى جديد وأكثر من هذا لا يرونا جديرين حتى بمجرد اللعب معهم. هذا النبذ هو أقسى عقوبة لحقت بنا منذ زمن طويل. وها هي قطر تكسر عزلتنا وتجبر العالم أن يسافر إلينا ولو لمجرد القعود على مدرجاتنا والمرور على شيء من ملامح وجودنا المنسيّ.

لا تعلقوا مشاعركم على الهامش وتتناسون الجوهر، الهامش هو الفوز أو الخسارة. فيما جوهر الحدث هو الواقعة الجديرة بالتأمل طويلًا. كأس العالم في قطر. هذا أهم اختراق ناعم نجحت قطر في انجازه على مستوى الكوكب. أعادت لنا شيء من الاحساس بالقيمة الذاتية. وأنعشت آمالنا بقدرتنا على مزاحمة العالم ولعب دور حقيقي في هذا الوجود. 

هذه ليس مجرّد لعبة عابرة، بل حدث كوني تمتد دلالته لكافة معاني الوجود. أن يتوقف لاعب كرة قدم؛ كي يقرأ حديث للنبي محمد عن العدالة. هذا يعني أن لدينا معانينا الخاصة، معنى نبيل صالح للإنسان في كل مكان ولسنا مجرد تجمعات متوحشة أو نحمل أفكارًا مهددة للحضارة، كما كانوا يتوهمون. 

عمليًا فشلنا في تأسيس دول مستقرة؛ لكن هذا ليس دليلًا عن كوننا شعوب فارغة من كل شيء. ليش مؤشرًا أننا بشر نفتقد للذوق والأخلاق. لدينا تصور للحياة يمثل إضافة للبشرية لو أنها تواضعت وأصغت إليه. يمكن لصاحب المستوى الأول أن يستفيد من بشر يقعون في أسفل سلم للحياة. هذا الوجود البشري أكبر من أن يُختزل في نمط حياة أحادي، هو النمط الغربي. كل هذه التشوهات العربية، جعلت مونديال قطر، يكتسب دلالة تتجاوز الحدث. إنه مهرجان لترميم وجودنا المتضرر. دولة صغيرة ساعدتها الأقدار لترتب حياتها بشكل جيد، ولكونها تتمتع بعقل متعافي من المرض، لم تكتف بحصاد نجاحها لوحدها؛ بل وقفت وقالت : هذا مونديال العرب أجمعين. 

ليلة تنفتح فيها ديارُ العرب، ملوك يستضيفون البشر من كل مكان، يتجولون في شوارعنا وينامون تحت رعايتنا. هذه رسالة بأننا أمة لها وجود حقيقي ولسنا مخلوقات فضائية أو أشباح مخيفين. نحن أمة أو هكذا نعتقد، سنتجاوز ارتباكاتنا يومًا ونقف هناك؛ كي نوجه مسيرة البشرية ونغمرهم بالمعنى الذي نريد. ما صنعته قطر نموذج لما يمكننا صناعته..متى أعدنا ترتيب حياتنا بشكل جيد. عالم معقّد؛ لكنه يوفر منافذ كثيرة للّعب، شيء من الذكاء والإرادة وسنقف بموازاة العالم تمامًا، نمسك خطام الناقة ونفتح دروبًا جديدة للبشر. 

احتفلوا فحسب.