"الإصلاحيون لم يُبقوا لهم صاحب"
"الإصلاحيون لم يُبقوا لهم صاحب" تتكرر هذه العبارة كثيرًا هذه الأيام، وتُسقَط بشكل خطأ؛ لتبرير واقع مختل. يراد من الإصلاحي أن يتقبل كل سلوك كارثي بهدوء؛ كي يظل جديرًا بالصداقة، ما لم فهو "شخص لم يُبق له صاحب"
أصحاب هذه الخلاصة، لا يناقشوا جوهر المشكلة، بل يذهبوا لممارسة عملية ترهيب ضد كل من يناهض سلوكًا مؤذيًا للمصير العام، هذا القفز على الفكرة والموضوع، لتقييم الأخرين هو نوع من المغالطة ورغبة بمصادرة حق الإصلاحي وغيره في اتخاذ الموقف كما تُمليها عليه قناعته وحتى مصلحته لا مشكلة.
مطلوب من الإصلاحي أن يبتلع المهانات بصمت، أن يدعهم يتحدثوا ويباركوا الخيانات والتواطؤات ويجمِّلونها أمام الناس، ما لم فهو شخص عنيف وصراحته تجرح ضمائرهم الناعمة. عليه هو أن يوقِف غضبه، وليس عليهم أن يراجعوا مدى استقامة سلوكهم. لا داعي للشعور بالقهر، وليس على الإصلاحي أن يتجشّم عناء الدفاع عن بلاده كأنها قطعة أرض مملوكة بشكل شخصي له. هذا ما يُطلب من الإصلاحيين بشكل متكرر.
صحيح، هناك صفة عامة لدى معظم المنتمين لهذا الحزب هو أنهم يتخذون مواقف فيها صرامة عالية وقناعتهم غير قابلة للمساومة، وهو ما يجعل الخيط الفارق بين الموقف الحاسم واللغة العنيفة محدودا، غير أن هذا النوع من المواقف هو ما تتطلبه اللحظات الحاسمة بل والرؤية الدافعة لبناء دولة. بدلا من التفسخ والمواقف الملتوية والقابلة للبيع والشراء. ولهذا السبب تحديدًا، كان وما يزال شباب الإصلاح، ذو موقف موحد ومتجانس ويتمتع بقوة وجدانية عالية، بلا فراغات ولا نوافذ للمداهنة وارخاء الموقف.
لكن المشكلة تحدث في لقاءهم بالأخر، الأخر الذي يتعامل مع مصائر الشعوب وتضحيات الناس ودماءهم، كما لو أنها قضايا عادية لا تستدعي أي غضب. هناك حرقة خاصة تتجلى في منطق الكثير من عناصر الحزب، حرقة يجدها الأخر غريبة ولا يستوعبها، وبالتالي هو يشعر بالرعب حين يتلقى سيل من التعليقات الحادة. فيخرج للصراخ " الإصلاحيون لم يبقوا لهم صاحب". في الأغلب، الثقافة الليبرالية تنتج شخصًا خاملًا شعوريًا، ذو عواطف معقلنة بشكل سلبي، إنها تجرده من انفعالاته القوية والفاعلة، ولهذا هو ينصدم عندما يواجه انسانًا ما يزال يتمتع بجسارة داخلية وقوة انفعال تناسب الحدث.
شخصيًا، أدعو الإصلاحيين للتمسك بثباتهم الأخلاقي هذا، مع مراعاة شيء واحد، هو تجنب أي لغة بذئية أو جرح شخصي لأي مختلف معهم. عليهم ألا يتوقفوا عن تعرية أي شخص يتاجر بدماء الناس، مع حفظ كرامته الشخصية والتوجه لاسقاط منطقه المختل. ثم وبالتوازي مع هذا، عليهم مهمة تمرين أنفسهم على القبول بالآخر لأقصى حد ممكن والاستعداد لمصافحته في الغد بصدق ونبالة وبقاء اليد ممدودة له دائمًا. ما لا أتقبله من الإصلاحي هو الذهاب لقطيعة شاملة وعنيفة مع الأخر، ما دام يملك الشجاعة ليتقبلك صديقًا بشرف. عليك أن تدين منطقه؛ لكنه انسان مثلك، لا تبصق في وجهه ولا تغلق بابك دونه.
ملاحظة: عمليًا، في الواقع، وبلحظة صدق، سيعترف لك الكثير، أن أنبل أصدقاءه هم من هذا الحزب أو قريبين منه، هذا هو تقييمهم المباشر لسلوكيات الناس، من منظور انتماءتهم_مع كونه من جانب تفسيري معرفي، هو تفسير غير دقيق_؛ لكنهم حين يرتفعون نحو الموقف السياسي، يصادرون هذه الصفات عن الإصلاحي ويمارسون عملية غمط وشكوى منه. كما لو أنهم يريدون منه أن يظل ذلك الشخص الوديع والخائف، دون أن يتفهموا حقه في الغضب وأنه إنسان مثلهم له الحق في ممارسة انفعالاته الطبيعة والدفاع عما يتعرض له من استباحة، فيما هو أكثرهم اجتراحًا للمعاناة في سبيل خلاص البلاد. على أن معاناته هنا ليست مبررا لدعاوى الاستحقاق؛ بل مفسرة لشعور الحنق فحسب.
هل قلت "الإصلاحي" لا أخفيكم أني أشعر بالأذئ حين أستخدم توصيفًا حزبيًّا لشرح سلوك ومواقف الأخرين، احساس عام بعدم النزاهة في تقييم الإنسان، هذا المخلوق المعقد في تكوينه النفسي والذهني. أنت حين تستخدم هذه العبارة: " الإصلاحيون لم يُبقوا لهم صاحب" لا أدري كيف يجرؤ مثقف أن يطلق عبارة كهذه ولا يشعر بخدش في ضميره. وبأنها ليست فقط عبارة بدائية، بل ومختلة منطقيًا. هذا النوع من التنميطات له أثر كارثي وخفي في تدمير قيمة التعايش وضرب مفهوم المواطنة بين الناس، وتكرارها يسهم في رفع الأسوار ومراكمة حاجز شعوري يُضعف من الاستعداد الحر للتفاعل واقامة تواصلات فعالة بين المواطنين. لكأنك تجرد هذه الفيئة من البشر من انسانيتهم، بوعي أو بغير وعي. وهنا تكمن الكارثة. تحويلهم لشياطين تمهيدًا لخفض مواطنيتهم وربما نفي حقهم في الوجود الطبيعي.
ليس الأمر هنا متعلق بما إذا كان الإصلاحيون جيدين أو سيئين؛ لكنها عبارة خاطئة كليًا، ولا يليق بمثقف ذو حساسية عالية تجاه المعنى أن يستخدمها لوصف ملايين البشر وكأنهم قطيع من حيوانات بلا إرادة حرة ولا تمايز ومجردين من سمات الإنسان الطبيعي. مثقفون يتورطون بهذا، بدلا من التوقف لتفكيك مواقفهم، ومراجعة جذرية لمواقفنا نحن حين تُغضبهم، لماذا هم غاضبون..؟ أليس مصيرنا، مصيرهم، هل هم بشر قادمون من جزيرة مختلفة؛ كي نقول عنهم أنهم ليسوا أصدقاءنا، أليس في هذا ممارسة شريرة تجاه مواطنين مثلنا، وهناك خطر ما في تكريس هذا المنطق. هل أنت في تعاملك معهم واقعيًا، تشعر أنهم غرباء أطوار يتوجب التوجس منهم طوال الخط، عزلهم، بل ومواصلة مطالبك لهم بأن يذعنوا دون شرط ولا حتى حقهم في الصراخ.
اللعنة ع هذا الواقع المختل، كيف يجرنا لمناقشة بداهات يفترض أننا استوعبناها في المراحل الأساسية بالمدرسة.