الثورة المجردة من الأطماع

أخطر صنف من الثوريين، هم أولئك الذين ليس لهم أي أطماع شخصية من وراء نضالهم، هؤلاء هم من يصنعون التحولات الكبرى في المجتمعات ويدفعون بالفكرة الثورية لأقصى درجات التحقق، أولئك الذين يتحركون بدافع الفكرة النبيلة فحسب، إنهم يتمتعون بنزاهة داخلية قوية وراحة ضمير عالية، لا يمكن شراءهم وغير قابلين للتدجين أو الإحتواء.


بخلاف الذين تمتزج دوافعهم النضالية بطموح شخصي فهؤلاء يسهل ترويضهم وإثناءهم عن مواصلة الدرب..وغالبًا ما تجدهم يتخذون من خيبتهم الشخصية مبررا للنكوص عن الحلم، بحجة فشله، أو يشعرون بالغبن حين يتمكن هذا الشخص أو ذاك من رفقاء الثورة من تحقيق مكسب ونجاح شخصي ما.


الصنف الأول دائما ما تجدهم بنفس درجة الحماسة والدافع الشعوري القوي في نضالهم، وعند مختلف الظروف والأحوال. وهذا النوع من الثوار هو ما لا يمكن هزيمته، حتى وهو منكسر؛ يظل حاضرًا في الميدان بنفس درجة حضوره لأول مرة.


حتى وهو في قمة اليأس، تجده أيضًا في قمة الفاعلية، وكما يقال: إن أعظم ما يؤرثك إياه اليأس هو الجرأة، جرأة مؤمن عميق بفكرة، انكسر ؛ لكنه لم يغادر المعركة، وما عاد بالإمكان تحطيمه، هذا النوع من الثوار أكثر حصانة من الانهيار، هو لا يتحطم؛ لكونه لا يستمد دافعه من أمله بمكسب ولا حتى من أمله بتحقق الأهداف مباشرة، بل من رفضه لواقع مختل، وهنا تكمن خطورة اليأس الفعال لدى ثوار فبراير.


إنه لا يدافع عن حق شخصي ولا يناضل لمكسب مادي، بل يناضل دفاعًا عن قيمة عامة، عن فكرة خلاقة تتعلق بالمستقبل، فمبدأ النضال لديهم هو قيمته الذاتية، إنهم يستمدون صمودهم من عدالة الحلم ذاته بصرف النظر عن مآلاته، وبصرف النظر عما خسروه وعما لم يربحوه.


هؤلاء بإعتقادي هم القطاع الأكبر من ثوار فبراير، وهذا ما يفسر أسباب احتفاظهم بذات الزخم طوال فترة نضالهم بحثًا عن العدالة، على الرغم من انكساراتهم الواقعية وانسداد الأفق أمامهم، إلا أنهم يتجلون_وبعد عشر سنوات على الثورة _بنفس درجة الثبات ويتعمق إيمانهم بعدالة فكرتهم كلما تقدم بهم الزمن أكثر، فقيمة الفكرة لا تتأثر بطول زمن تحققها من عدمه..إنهم يدافعون عن مستقبل أجيالهم، عن حياة لائقة حُرموا منها ولا يريدون لأحفادهم أن يستمروا بذات العناء.


ليست الطموحات الشخصية مناقضة بالضرورة لنزاهة الفكرة الثورية، لكن ما يضعف صلابة الموقف القيمي للناس هو امتزاجه مع أطماح شخصية، حتى وإن كانت نبيلة ومشروعة؛ لكنها غالبًا تتسبب في تشتيت الطاقة الدافعة للموقف وإخضاعها للحسابات الذاتية، وبما يجعل غواية المكسب الخاص يستأثر بهمه الأول على حساب قلق الفكرة الثورية ومستقبلها.


كما أن من يناضلون لغاية عامة، وبتجرد ونزاهة شديدة، هؤلاء أكثر قدرة على تحقيق ذواتهم بطريقة عفوية وغير مباشرة، دون أن يكونوا ساعين لذلك الطموح الشخصي بشكل متعمد، إن نضالهم دفاعا عن المبدأ والقيمة الثورية العامة، يؤتي أكله حتى على مستوى مكاسبهم الخاصة والمشروعة؛ لكن ذلك يحدث بشكل عرضي، كنتيجة طبيعية لولاءهم الشديد للفكرة.


المجد لشباب فبراير، الفدائين الكبار، أولئك الذين يدافعون عن حلمهم على امتداد الدرب ومهما طال زمن النضال..، منهمكون في الإشتغال على الفكرة، يحرسونها من الذبول وينسون أنفسهم في غمار تثبيت الحلم وتصويبه، متشبثون بالحلم وليست الأحلام فكرة مثالية تفتقد للواقعية، بل هي ما تقف خلف أكثر الفتوحات البشرية عبقرية وإبهارا، فبدون الأحلام يتجمد التأريخ وتغدو الحياة مكبلة بحسابات رتيبة، يتعطل معها الخيال والطموح والمستقبل معا.