
المشهري وسكان خط النار
أسكن في خط النار، وما عصيفرة عن الخط ببعيد..
في مايو الفائت عشنا واحدة من التحاسين التي تغير مزاج المنقبض. إزالة أكوام التراب وأكداس القمامة التي ولدت وكبرت في جولة مهدمة بآخر شارع آمن شمالي المدينة. المواطن العادي يبحث عن تحسنٍ يلحظه، لا وعدٍ يخدعه. رطانة التصريحات صارت دليلاً على المراوغة والتضليل، لمعة الصورة دليل دسومة أعقب خيانة وضعة. لا قيمة لأنشطة المسؤولين أمام عمل بسيط مثل إزالة التشوهات التي ألفتها العين، إتمام فتح شارع، كانت واحدة من أجمل المفاجآت التي حصلت لسكان خط النار.
من فعلها؟ رأينا لافتة صندوق النظافة والتحسين معلقة على المبنى المقابل.
من قبل الحرب، وربما منذ زمن أبعد؛ تغرق السلطة ورجالها في المعارك المادية، يشتبك النافذون على الريالات المُقرة على علب المياه، كراتين البسكويت، وأكياس البفك. الأيادي "اللاطشة" تمتد إلى الصندوق المالي المتكفل برفع قذارات الجميع من صناديق الزبالة. طمعاً بإيرادات المكتب الخدمي؛ يسيل لُعاب الأوغاد اعتسافاً لعَرَق عمال النظافة الذي يسيل كل يوم تحت لفح الشمس، لم يكن في حسبان أحد أن الدم سيسيل.
في أكتوبر 2023، أصدر المحافظ قراراً بتعيين افتهان المشهري مديراً لمكتب صندوق النظافة والتحسين.
لا يوجد أي شك في قدرات المشهري وحنكتها، إنما تدور الظنون حول نوايا صاحب القرار، المهووس بالأسلوب الإداري القائم على تحريك الآخرين على رقعة المشهد، لإزاحة النافذين الذين يزاحمونه على الموارد.
تفوقت العبقرية الإدارية النزيهة التي جسدتها افتهان المشهري، على العقلية الاحتيالية التي تجسدها رئيس السلطة، تفوق من يستخدم أسلوبه لخدمة الناس على من يستخدم الناس ليعيش أسلوبه، حتى حملات التشويه والإساءة التي تعرضت لها المشهري؛ لم تنجح. من المضحك أن تلك الحملات حملتها فشل "تنظيف السائلة" وأنها موظفة في سلطة الإصلاح التي تحكم تعز. هؤلاء المتعبين هم أنفسهم الذين يحتشدون لاستخدام الحزبية الآن، ممسحة لجريمة مروعة، قبل أن يبحثوا عن ضحايا جدد بعد أيام.
من يميط الأذى عن الطريق لا يعثره أذى الآخرين. اجتازت افتهان حملات المكايدة وأزالت التهم عن طريقها، غالبت الظروف من أجل عمال النظافة.. من أجل النظافة.. من أجلنا. الكثيرون لم يعرفوا من أي مبنى تدير مكتب النظافة والتحسين
نحن سكان خط النار، حين رأينا آخر شارع آمن خال من التراب والعشوائيات، ومتسعاً امام المارة، نظرنا في الناحية المقابلة، وجدنا افتهان المشهري جوار المبنى.
هل كان مكتب النظافة هنا دون أن نعرف؟ كيف صرنا الحي المجاور للصندوق؟ هل جرى تسليم المبني بلا مشاكل؟
كان المبنى الحكومي، بحوزة قيادي سابق في المقاومة، مدعوم من المؤتمريين في المحافظة. صحيح أن هناك علاقة قرابة بينه وبين القيادات التي شكلت نواة الجيش الوطني والمقاومة الشعبية، لكن النافذين المؤتمريين في السلطة المحلية هم من ثبتوه في وظيفة مرموقة. لا علاقة للانتماء المناطقي أو الحزبي أو الوظيفي بالمبنى، الإشارة هنا عابرة، للتذكير بمشاكل المباني التي حماها مقاتلون أو سكنوها من أول الحرب.
كان رئيس المجلس الرئاسي قد وجه المحافظ بصرف مبلغ مالي إلى أحد قيادات الجيش. حسب المعلومات فإن المبلغ مخصص لحل إشكالية المباني من قبل لجنة صغيرة، ليتفرغ القيادات والأفراد للمعركة ضد المليشيا الإرهابية. المحافظ صرف جزءًا بسيطاً من المبلغ وتم حل مشاكل عشرات البنايات، بالفعل، لاحقاً رفض المحافظ الاستمرار في صرف الباقي لاستمرار العمل. كل أساليب السلطة المحلية مكرسة للحصول على أكبر قدر من المال. لا تكترث بمعركة ولا تنمية.
بخصوص مبنى صندوق النظافة والتحسين، لم تتوقف التخمينات حول المبلغ الذي استلمه القيادي السابق الذي كان المبنى بعهدته؟ لم تتوقف التحليلات أيضاً: الرجل فعل ذلك بحكم علاقاته بالمؤتمر، لتوجيه رسالة مُحرجة إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية في تعز.
لا تسمع افتهان المشهري الأسئلة.. لا تحلل النوايا.. فقط كانت تعمل، تخلص لوظيفتها، تبذل جهدها لتحسين جودة العمل وحياة العاملين. حتى على صعيد حياتها الشخصية، لم تتوقف المسؤولة النشطة عن تطوير ذاتها. في يونيو، حصلت المشهري على درجة الماجستير بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، عن رسالتها الموسومة بـ :«استراتيجية مقترحة لتطوير أداء الصندوق النظافة في ضوء مبادئ الحوكمة».
في يوليو، اتضح لنا أن المدني (القيادي السابق)، يسكن في الدور الأرضي من المبنى. ربما أفحمته مديرة الصندوق بصوتها المسؤول وشخصيتها القيادية ليفسح الطابق الرئيسي. المناصفة في المبنى، جعلت الرجل يتوسط لابنه وابن صاحبه لحراسة مكتب الصندوق ليلاً. هناك فراغ متعلق بزمن بدء صرف الرواتب للحارسين. كل الفراغات بعد المال مملوءة: إغلاق المكتب، إطلاق النار في الهواء، تهديد الموظفين، تهديد المشهري نفسها، وكلما عادت للرجل الذي جبلهما قال لها أنه لا يقدر على صديق ابنه لأنه مُحبِّبْ.
يقول بيان لنقابة عمال صندوق النظافة والتحسين، أن الحارس المحبب، هجم على مكتب الصندوق، أغلقه، أطلق النار في الهواء، هدد افتهان المشهري نفسها، طالباً إتاوات.
يعلم المحافظ أن الشرطة لن تتعامل مع القضية بجدية، الإمكانيات محدودة، علاوة على النظر إلى تصرفات القاتل كما لو أنه ولداً مازحاً. وجه مذكرة للشرطة ـ كالعادة ـ سيوظفها عند الحاجة.
تحركت فعالية حبوب الهلوسة بالتزامن مع احتدام الصراع حول إيرادات المحافظة بين السلطة المحلية والجيش. السلطة المحلية ترصد أي ثغرة يمكن أن تجلب منها المشاكل للجيش والأمن، تبحث عنها. إذا لم تجد؛ تخلقها من العدم؛ لإشغال الجيش عن معركته ضد مليشيا الحوثي الإرهابية، وتشويه صورته وإضعافه.
وسط هذه الأجواء، قتل المحبب، افتهان المشهري. استشهدت المرأة التي أعادت لنا، نحن سكان خط النار، بعض الأمل برؤية مسؤولين محترمين.
هل يقف طرفاً خلف القاتل المحبب أم لا؟ هذه تكشفها إجراءات الأجهزة الأمنية ومؤسسات إنفاذ القانون. المُلاحظ وجود مستفيدين من جريمته: النافذ الذي تضررت نسبته المالية بوصول المشهري إلى الصندوق، المسؤول الذي يريد أن يبدو منتصراً في تقاريره على الجيش والأمن. كانت المباني العالقة أمكنة ملائمة لإشعال المشاكل التي يربحها الأوغاد. كان على الجهات الأمنية والعسكرية تفويت الفرصة على المتربحين بالتعامل الصارم والجدي مع التهديد، ما زالت مخولة الآن، بإثبات قدرتها على إنصاف الضحايا من كبار المجرمين ومن يقف خلفهم، تماماً كقدرتها على سحق مليشيا الإرهاب الحوثية.
رحم الله المرأة الدؤوبة، التي نزلت الأرض لأجل خدمة الناس. الإدارية المحنكة التي لم تعر، حيل القادة اللئيمين ولا نظرات المشبعين بالضغينة السياسية، اهتماماً. القوية التي تحملت الضغط النفسي الذي يسببه الواقع المعاش ولم تلتفت للخلف. رحم الله افتهان المشهري.
المصدر: يمن شباب نت