صناعة السلام.. استئناف الحرب
الذكاء والخبرة ومعرفتك الكبيرة بعدوك، من العوامل التي قد تحقق لك النصر وإن كنت وحدك، المؤامرة كبيرة؛ ولكن النصر يبقى ناقصا. المساحة التي يشكلها النقص، قد تكون منطلقاً لتنغيصك، وإثارة البلبلة داخلك. التهاون بشأن عدوك المتراجع أو المنسحب يعني أن هناك خطراً أصابه المرض، يحاول التعافي ليعود. حتى وإن غاب تماماً عن مواجهتك، إياك أن تنساه.
مراكمة مشاكلك الصغيرة في بيئتك، قد تتكتل وتصير جبلا يظهر أمامك فجأة، قد لا تخيفك المشاكل تلك إذا ظننت أنك ابتعدت كثيرا عن الأخطار وأن الأعداء قد غادروا مواقعهم، فنسيت المشاكل والخلافات، حتى وإن كانت مع أقرب المقربين إليك قد تمزق قوتك، ما زلت تعتمد على الذكاء في مشاغلك وأعمالك في فترة اللا حرب، فجأة يظهر الخطر عليك وعلى كل مصدر من مصادر القوة الممزقة.
تبدو حبكة المسلسل البريطاني الضخم "بيكي بليندرز"، مستوحاة من فنون الحرب، فالأحداث التي تدور سنة 1919عن قصة حقيقية أبطالها أفراد عائلة شيلبي، تسلط الضوء على عصابات تلك الحقبة والفساد الهائل الذي تورطت فيه أجهزة الدولة نفسها بعدما وصل تأثير العصابات إلى مفاصلها، وصارت هي السلطة الحاكمة في كل شيء: الرياضة والاقتصاد والأسلحة، وصولا إلى المجالس التشريعية وتجارة المخدرات.
بيكي بليندرز، عصابة حقيقية ولها تاريخ، وبعيدا عن الشكل الفني الذي عُرضت فيه القصة، إلا أن تحركات أسرة شيلبي وردة الفعل التي يقوم بها تومي زعيم العصابة/ بطل المسلسل، تبدو وكأنها محاكاة لما ذكره سن تزو في فنون الحرب قبل آلاف السنين، مضافا إليه تكتيكات الحرب الحديثة.
لإرهاب الخصم: أشع الجنون عن نفسك، ازرع قلاقل في صف عدوك، استعن بحليف لا أخلاقي يخيف خصمك ومستعد أن يواجهه، ولكن لاتنس أبداً: إذا توزعت قوتك وتشتت فإن العدو قد يسرقها قطعة قطعة.
تبدأ أحداث الجزء الرابع، وأفراد بيكي بليندرز متفرقين ومتحاملين على زعيمهم، يعيشون حربا فيما بينهم، محركهم الذكي توماس شيلبي يشتغل في التجارة، المراهنات، العاهرات، استئجار القتلة، ولأنه أبعد حبل المشنقة عن رقاب أفراد العائلة في اللحظات الأخيرة، يتحاملون عليه، ويظنون أنه جزء من مؤامرة عليهم لأنه لم يدخل معهم السجن، وبعد خروجهم يعيشون متباعدين: آرثر شقيق توم في فلته وباحتها العريضة مع زوجته التي فرقت بينه وبين السلاح. جون شقيقه أيضاً يمارس الصيد، وعمتهم الحكيمة بولي منغمسة في الاستبصار، تتراءى لها الأشباح من حين نجاتها من حبل المنشقة، وقررت العيش بعيدا عن شيلبي لتحافظ على ابنها مايكل.
في لحظات اللا سلم واللا حرب كل يفكر بالآخر ويتحامل عليه بفضل مؤثرات غرضها زيادة التنافر بين أفراد العائلة، يظنون أن ذلك هو الطريق السليم لحياة بلا أخطار. ولكن تصل رسالة لكل فرد من أفراد عائلة شيلبي على حده: يد سوداء من عصابة إيطالية تهدد حياتهم. يدرك تومي خطر الرسالة، فيدعو العائلة المتنافرة والممزقة إلى اجتماع، في ذلك الوقت يقتل فيه أخوهم جون ويصاب مايكل ابن بولي.
بالكاد حصل الاجتماع العائلي والذي كان الغرض منه: صناعة سلام حقيقي بين أفراد توماس شيلبي، وتوحيد الجهد لمواجهة خطر اليد السوداء الإيطالية.
كانت بولي ضد توجهات توم شيلبي، تمارس عليه ما يشبه بالحرب النفسية، لماذا لم يقدم للمحاكمة بينما كانت حبال المشانق قريبة جداً من رقابهم؟ هل هو متواطئ مع النظام الفاسد أو أبرم صفقة معه؟ وغيرها من الهواجس، ولكن الآن هم في خطر حقيقي، مايكل ابن بولي نفسه أصيب إصابة خطيرة من العصابة الإيطالية أثناء مقتل جون.
دعا توم أفراد العائلة للتصويت على غرض الاجتماع، بولي صوتت عن نفسها ونيابة عن ابنها، للهدنة وليس للسلام.. للهدنة مع توم، البقية صوتوا لما طرحه، بعد فرز الأيادي المرفوعة كانت النتيجة: خمسة أصوات للسلام واثنان للهدنة، وامتناع واحد.. فلنستأنف الحرب! ثم أدار ظهره ليكسر اليد السوداء بكل الوسائل الممكنة.
صوت الهدنة، أقصد بولي، معناه أن القوة التي يقودها توم ستفقد المشورة الحكيمة والتعليمات الدقيقة للعقل الذي يستبصر الأحداث، تريد أن تسافر مع ابنها إلى استراليا لتعيش هناك، مايكل يخبرها على سرير غرفة الجراحة: من دونه، سيلتهموننا واحدا واحداً.
تدرك بولي الأمر، وتعود، ولأنها عادت من قرب المشنقة، فقد حملت معها حكمة المقاتل الذي ذاق طعم الموت، وكيف يتصرف: ما لم أستطع أن أفهمه حتى الآن هو أنه حين تتذوق طعم الموت تصبح حراً!
*المقال خاص بـ"يمن شباب نت"