رثاء ضياء الحق وحديث عن الجريمة..

هذا ليس اغتيالاً لشخص اسمه: ضياء الحق، في تعز، هذا استهداف مقصود لروح المدينة، لم يكن ضياء مقصوداً كشخص في ذاته، بل فكرة المدينة وقد تجسّدت فيه، اغتيال لتلك الروح الجامعة، محاولة لئيمة لتفريغ المدينة من رموزها الكبيرة، أولئك الذين يُتقنون ردم الهوّة بين أبنائها، ويشيّدون جسورا للعبور نحو الغد. 

في تعز رجال كثيرون، ولكل حزب وِجهة رموز لها ثقلها، غير أن ضياء كان رجلا عابرا للانتماء، يقف في التلّ متساميا فوق الفروق الصغيرة، فوق الشطط العابر، يلتقط خيوط الشوارع والجهات، ثم يتنزل ينجز مهمّته؛ كي يُحيك بساطاً جامعاً يبدد مخاوف أبنائها، يستصلح ما تهدّم بينهم من روابط، ويرسّخ اليقين في مدينة أثخنها الشتات. 

لقد أنجزت وصيتك الأخيرة يا ضياء، ورحَلت نحو ما كُنت تناضل من أجله. 

لم تكتب وصية شخصية تخص أقاربك، لقد كانت وصيتك سلوكاً عاماً. 

كنت مسكوناً بالناس، سهرت لتعيد الحياة لعشرات البشر المخفيين في سرادب الموت ورحلت.

لكأنَّ هذا العمل كان بيانك الأخير، إفصاح نبيل عمّا نذرت نفسك له. 

الحرية لكل البشر. الحرية لروحك، وقد صارت ظلالًا في عوالم الأبد. 

صادر القتلة ما تبقّى لك من العمر يا ضياء، فالقتل اعتراض لئيم على إرادة الحياة، لكن ما عشته كان عمراً كافياً ليقول لنا من هو ضياء الحق، ما هي حقيقته الرمزية الدفينة، من هذا الذي يزعج وجوده أرواح اللئام. 

لم يكن جسدك هو المستهدف بذاته، بل حقيقتك الداخلية، ذلك الفيض الذي يتجلّى منك ويبث الحياة في كل من حولك، المستهدف هو روحك، إرادة الحياة فيك، وروح المدينة الثانوية في أعماقك. ذلك النزوع المدني الراسخ في سلوكك وما به تتحقق فكرة "المدينة" بين الناس؛ كفضاء جامع لكل البشر. 

كل فلاسفة الدنيا يقولون إن للإنسان حقيقتين يا ضياء: وجوده المادي، ذاك الجسد الظاهر بين الناس بالأمس، جسدك المسجّي في تابوت المدينة الخائفة هذا النهار، وحقيقتك الثانية: وجودك الرمزي، حضورك المعنوي، روحك المنتشرة في السهوب والنفوس والآفاق. 

تمكّن اللصوص أن ينتزعوا منا وجودك الحيّ، وتلك كلفة طاعنة، خسارة بلا حد، عزاؤنا الوحيد لتخفيفها: هو حقيقتك الباطنية الخالدة. هذا الحزن المعمم في سماء المدينة منذ الصباح، هذا العزاء المفتوح بعدك، مشاعر الذهول والصدمة في وجوه الشباب.

كل شيء هنا يقول: خسرناك نحن، فقدت المدينة قلعة كانت تحرسها من الأرواح الشريرة، خسر الشباب ملاذاً كانوا يستشعرون وجودهم قربه، نحن الضحايا ولست أنت يا ضياء. فأنت وحدك ما لا يطاله الفناء. 

ماذا يريد المرء من هذه الحياة يا ضياء، سوى الخلود، هذا المجد المبثوث في حكايا الناس عنك، تلك ثروتك الخالدة، ميراث كل روح عظيمة تعرّضت لطعنة غادرة. لا أقول هذا لأخفض فداحة الموت، أو أحيل الخسارة إلى مناسبة تحتفي بالبطل والبطولة المستلبة من بيننا، بل لأثبت للقتلة حقيقتك العصيّة على الشطب. 

أقرأ كتابات رفاقك، وأتساءل: هل انتصر خصومك بقتلك؟ هل هزموا وجودك للأبد؟ هل نجحوا؟

فيصدح درويش: وخوف الطغاة من الذكريات. خوف القتلة الأغبياء من هذا الميراث الذي يخلفه الراحلون الكبار. 

لا يوجد سفاح ذكي يقتل خصمه الكبير، فبقدر ما يُوجع الناس بعده، يُسهم في تثبيته كرمز خالد ومُلهم، مصدر يحرّض الأجيال ليسلكوا دربه ويستكملوا ما لم ينجزه بعد، وربّما أن ما تورِّثه الشخصيات المُلهمة في المجتمع حين تعرّض للقتل، يتجاوز ما كان يمكنه أن يضيفوه فيما لو استكملوا حياتهم دون أذى. 

مات ضياء الحق، هذا انكشاف خطير لا يُسر أحدا، أن تغدو حياتك عُرضة للمصادرة، فذلك أمر يجعل مستقبلك رهين إرادات الأشباح، أولئك الذين عجزوا عن تمرير ألاعيبهم في المدينة، فلجاؤوا إلى إزاحة أبنائها الساهرين لحراسة حلمها والتصدّي لعبثية المتربصين بتعز ومستقبلها. 

أعيدوا تصفح أرشيف المواقع الالكترونية، والصفحات التابعة لجهات معروفة، ستكتشفون أن ضياء لم يُقتل، فقبل أن يتخذ القاتل قراره بالتصفية، كان قد سرّب حكايا تحريضية كثيرة ضد الرجل، وما الطلقة إلا الفصل الأخيرة في قصة الجريمة. 

لكم أن تحزنوا يا رفاقه بقدر فاجعة الرّحيل. الحزن فقد، فجوة في جدار الروح، وللروح حق الشعور بالفراغ بقدر مساحتك الشاسعة فيها يا ضياء.

لكم أن تحزنوا، ولكم أن تملأوا حقيقة غيابه الجسدي بحقيقته الراسخة في أعماقكم. 

ذلك الأثر الروحي الذي خلّفه الرجل فيكم. لكم أن تصنعوا المعنى من شخصيته، أن تكتبوا للناس عن حقيقته الداخلية، عن كل ما كان يمثله ضياء الحق في حياتكم، وفي حياة المدينة المفجوعة. 

لا تكتفوا بالدعاء له بالرحمة، والدعاء لطف يواسي الأرواح المكلومة بلا شك، لا تكتفوا بترديد عبارات: حسبنا الله ونعم الوكيل.. والله خير من يحتسب المرء خسارته لديه، ولا اعتراض على هذا. 

واجبكم الآن، واجبكم الأهم -قبل حق القصاص وبعده- كيف تخففوا نشوة القتلة، كيف تحرسوا قيمته المستهدفة، كيف تشيّدوا رمزيته العابرة للزمن؛ كي يغدو ضياء الحق "معنى" يتناسل في أرواح الأجيال شرارة ملهمة وقلعة تحرس مصير المدينة من المكيدة، حياة الناس من التفكك، ومستقبل الأجيال من الخواء والعدمية. 

هناك فكرة أود قولها ولو لم يكن من اللائق الإفصاح عنها أمام حدث الموت؛ لكنه توقيت مناسب لتكون دلالتها واضحة: لدى الإصلاحيين طمأنينة داخلية عالية، رموزهم تتمتع بصلابة روحية؛ تجعلهم أقلّ حذراً وريبة، إنهم يتحرّكون في المجال العام مشبعين بيقينهم الخاص، تلك السكينة المستمدة من خلفيتهم الدِّينية، بقدر ما تضفي عليهم طابعاً أثيراً في حياتهم وتعاملاتهم، هي تجعلهم فرائس سهلة لكل المتربصين بهم.. وأتمنى ألا يقرأ أحدهم في فكرة كهذه أي منطق تبريري للقتل، كما لو أن سكينة المغدورين مبرر للجريمة. 

فلا يوجد عاقل يقول بهذا، فكل ما في الأمر أنها ملاحظة تفسيرية عابرة. 

أخيراً: على الدولة أن تحمي كوادر المجتمع، وعلى البنى الحزبية أن تكثّف حراسة أبنائها، وعلى الرموز المعتبرة أن ترفع درجة حساسيتها الأمنية في تعز وغيرها.. فقد علمتنا التجارب أن ماكينة الاغتيال حين تعاود الاشتغال لا تكتفي بفرد أو اثنين، إنما تمضي في الجريمة، وتنتهج خطة متسلسلة، لا يقف فيها كاتم الصوت، حتى تكتمل لديه القائمة المعدّة سلفاً. 

وداعاً أيها الأب الكبير.. لك أن تستريح، ولنا الذهول بعدك، لنا أثر الطلقة في أرواحنا المنكسرة، ولنا أن نواصل الطريق حتى اللحظة الأخيرة والآخرة.


قناة بلقيس