عن خيار المقاومة الذي ننظر باحترام إلى إنجازاته ونهرب من تبعاته
كانت المقاومة ولا تزال هي الضامن الأوحد لتماسك الموقف الوطني، ولتآلف الأحرار ومناهضي الارتهان، لم تغادر الميدان ولم تترك الخنادق فارغة من السلاح والمقاتلين، إنها ماضية بعزم أكيد وبأس شديد، في توسيع نطاق المواجهة مع الأعداء المتربصين بالدولة والجمهورية والوحدة الوطنية.
لا تزال النماذج المشرقة التي جسدها المقاومون في مدينة تعز في ربيع 2015، بقيادة الشيخ حمود سعيد المخلافي ماثلة في وعينا ووجداننا، حيث تجلت تلك النماذج في تضحيات تشبه المعجزة وصلت إلى أهدافها العسكرية رغم أن المدينة وسكانها والمدافعين عنها العزل من السلاح حرفياً، كانت محاطة بنحو (12) لواء عسكرياً يمثلون مختلف صنوف الأسلحة.
النموذج البطولي الإعجازي جسدته أيضاً مقاومة الجوف العتيدة و رجال المطارح في مأرب وفي مقدمتهم مشائخ العشائر الأبطال، واليمنيون الذي هبوا لمؤازرتهم؛ بإرادة أدركت أن مأرب هي الملاذ المشرف لليمنيين، فالتحم الجميع بوحدات الجيش وصنعوا معجزة الدفاع عن الجزء الثمين من الوطن الذي ركز عليه مخطط الانقلابيين وحربهم الشاملة على الوطن.
الجميع تقريباً لا يزال يحتفظ بالصورة البطولية النادرة التي مثلتها مقاومة الجوف ومطارح مأرب و"الهبة الأولى" للشيخ حمود المخلافي ورجاله، والجميع يتذكر بامتنان وقفتهم البطولية التي لولاها لما بقيت مدن بالأهمية الجغرافية والاقتصادية والبشرية كمأرب وتعز في حوزة السلطة الشرعية.. لم تكن تضحيات مقاومة مأرب وتعز محفوفة بالتقدير من جانب الحلفاء، فقد تعمدت المنظومة الإعلامية الخارجية أن تضخ سيلاً من الأكاذيب والادعاءات الممهنجة التي أرادت تسقيط سمعة مقاومة تعز والنيل من مكانتها في وجدان اليمنيين، وفرض المعيار المالي لتقييمها بدلاً معيار التضحية والفداء اللذين تتجلى شواهدهما في مقابر الشهداء وهي تضم رفات الآلاف من الشهداء من القادة والمقاومين.
تتضاءل يوماً بعد يوم إمكانية الانحياز الشجاع لخيار المقاومة، لدى النخبة السياسية في السلطة الشرعية وخارجها، مع بقاء الإعجاب الشخصي المكتوم لدى معظم القادة في الشرعية هذا الخيار الذي لا بديل عنه لبقاء دولتنا وجمهوريتها ولدحر الانقلابيين وإنهاء مخاطرهم وتهديداتهم المتصلة بحزمة من المؤامرات الخارجية الخبيثة.
في أواخر يوليو/ تموز من عام 2023 أعلن الشيخ حمود المخلافي ما يمكن اعتبارها "الهبة الثانية"، إذ جرى إعادة تنظيم قوى المقاومة الشعبية في مجلسٍ أعلى، أطلق عليه المجلس الأعلى للمقاومة الشعبية. لم يكن هذا الإعلان خطوة في الفراغ، بل بني على موقف صلب وتأييد واسع النطاق من النخبة السياسية، التي بقيت رغم ذلك على مستوى التنظيمات والأفراد، مكتوفة الأيدي ومرتعشة وعاجزة عن إظهار التأييد العلني.
واليوم وقد طغت أحداث المنطقة وتحول اليمن بمأساته وكوارثه والتداعيات المؤلمة للحرب التي لم تتوقف يوماً إلى مجرد هامش على أطراف الأزمة الإقليمية الطاحنة التي تمثلها الحرب على فلسطين ولبنان، يحق لنا أن نتساءل: إذا لم يكن خيار المقاومة والعمل العسكري الوطني الشامل هو الخيار الأمثل بالنسبة لنا، فكيف يمكن لنا أن نواجه التداعيات المحتملة لهذه الحرب الإقليمية على اليمن؟
إن أهمية سؤال كهذا تأتي من خطورة أن يتحول النشاط العسكري لجماعة الحوثي في البحر الأحمر، إلى مدخل رئيس للتسوية السياسية والعسكرية في اليمن، تذهب نتائجها الاستراتيجية لصالح هذه الجماعة المفروضة على اليمنيين بإرادة دولية خبيثة لا ندري حقاً ما إذا كانت قد تغيرت بالاتجاه المعاكس أم لا.
إن بذل الدم والنفس والمال كانت ولا تزال تمثل المعيار الأمثل لتقييم الرجولة والبطولة والفداء والانتماء الصادق للوطن. ولا يمكن معها المزايدة على المرابطين في الميدان، الذين بفضلهم وبفضل تضحياتهم تساقطت أخطر المخططات التي استهدفت الطيف الواسع من رجال المقاومة في الجيش الوطني والإسناد الشعبي (المقاومة الشعبية) والتحامهما المذهل والباعث على الدهشة والإعجاب عبر كل هذه السنوات من زمن الحرب.
أغدق المتدخلون الخارجيون بالمال والسلاح على الجماعات السياسية المسلحة ذات الأجندات السلطوية الأنانية والجهوية، لضمان غلبتها الميدانية، لكن ذلك لم يكن كافياً للوصول بها إلى مرحلة النفوذ الكامل عبر هذه الآلية. لذا رأينا جزء من الحرب الإقليمية التي استخدمت فيها أكثر الأسلحة تقدماً قد خُصصَ عمداً وبشكل مؤسف، لتخليق هذه الجماعات وتقويتها وتمكينها ميدانياً، وهو الأمر الذي مهد الطريق لجعل التعاطي معها سياسياً أمراً ممكناً، خصوصاً بعد أن اقتضي الأمر تنفيذ سيناريو المواجهات العبثية في المناطق الاستراتيجية حيث تتركز السلطة الشرعية وقواتها، وتتهيأ الظروف لبناء قواعد انطلاق لحرب استعادة الدولة، وانصب الهدف من هذه المواجهات على تجريف نفوذ الشرعية لصالح الجماعات السياسية الوظيفية المسلحة.
إنه لمن الغبن أن نرى ما نراه اليوم من تضعضع وتفريط وانتهاك للمقدسات الوطنية، وتضاؤل للآمال بإمكانية استعادة عافيتنا الوطنية، بعد هذه السنون من التضحيات الجسام التي قدمها أشرف وأنبل أبناء بلدنا من القادة والساسة وأصحاب الميدان، بالنفس والمال والمكانة المعنوية، كلها دُفعت بسخاء في مذبح الولاء للدولة والجمهورية وضداً على لتهديدات الطائفية التي يمثلها الحوثيون ومن يقف وراءهم في الداخل والخارج.
إننا نتبنى نهجاً معكوساً بالكامل في التعامل مع التحديات الخطيرة التي تطال وطننا، ويُعزى ذلك إلى التهتك الواضح في بنيان السلطة الشرعية، بعد أن قُسِّمتْ كغنيمةٍ سهلةٍ بين الوكلاء المحليين للأطراف الإقليمية والخارجية والمؤثرة في حاضر اليمن ومستقبله.
كما يعزى هذا النهج المعكوس والكارثي، إلى الاستهداف الممنهج لخيار المقاومة ومنع الشعب من خوض معركته العسكرية المستحقة ضد أعدائه، وإلى هذا العجز الذليل من النخبة السياسية في السلطة وخارجها عن اجتراح طريق يقود الشعب إلى استعادة حقوقه واستعادة دولته التي تستبيحها التنظيمات المسلحة ذات الأجندات الطائفية والجهوية بما تشكله من امتدادٍ صريحٍ لنفوذ وأجندات عابرة للحدود، إلى جانب ما تجتره من ماضٍ يفترض أن شعبنا اليمني قد دفنه ودفن معه الأمراض التي أوهنت جسده وأنهكته.
وفي الختام أود أذكر الجميع بحقيقة لا تغيب عن أذهانهم وهي أن السلطة الشرعية لم تعد تستمد شرعيتها من نفوذها على أرض الواقع، بل من الالتزام الإقليمي والدولي والإجماع المؤقت والمخادع الذي يمكن أن تفقده هذه السلطة في أية لحظة، إما نتيجة لتفكك الإجماع الدولي أو نتيجة لقرار يتم التوافق عليه في مجلس الأمن، مصحوباً بتلويحات بفرض عقوبات على المتمردين المحتملين.
*من صفحة الكاتب على فيسبوك