هيستريا المليشيا

الكتف التي اعتاد أبناء القرية على رؤية حقيبة الحاسوب معلقة عليها، صارت تحمل الكلاشينكوف. كان جاري متفاجئًا عندما رأي البندقية لصيقة بكتفي سنة 2019، في الواقع حولت الحاسوب إلى الكتف الأخرى ليرافقني إلى أي مكان أذهب إليه بعد الظهيرة.


عادةً، أخرج بعد العصر إلى مكان مطل على القرية أكمل يومي وأكتب. هكذا تعودت أن أقضي وقتي في القرية بعد اندلاع الحرب، قبل أن أكتسب، مرغماً، عادة جديدة: حمل البندقية ليل نهار.


بعدما انتقلت حقيبة الحاسوب إلى الكتف الأخرى وصعدت البندقية مكانها، لن يرى الناس غير البندقية، سألني جارنا عن السر، كنت مستنفراً بعد عودتي من السوق وشراء خزانة رصاص وثلاثين طلقة. أوضحت له: «في الليل ألتقي بأرانب هيجت نفسي على الصيد». لم ينفع هذا المبرر، قال جارنا كاشفاً تأهبي: «كل الناس يحبوك لا داعي للبندقية.. لن تقتل أحداً». أكد أنه يعتقد ذلك، أكدت له: «إلا إذا أتى من يختطفني. لن أسلم نفسي لأحد».


حالة الاستنفار التي عشتها في تلك الأيام، جاءت بعدما نقل لي أحد الشخصيات الاجتماعية في المنطقة، أنه سمع متحوثي البلاد يرددون اسمي في جلسة مع قيادي حوثي، نبهني: «بالإمكان أن نفعل شيء لو اختطفوا مقاتل كبير ضدهم، أنت لا».


ـ لماذا؟


ـ «أنت كاتب.. أنت معك فيس بوك، لن نستطيع مغالطة كتابك عندهم.. المتجملين كثير، وهم باشتين بلا متجملين».


منذ ذلك اليوم، إلتصقت البندقية في كتفي؛ كي لا أعيش في غياهب المليشيا.


لم يكن ما أعيشه هاجساً اختلقه القلق. في الفترة التي انتفش فيها الحوثيون وسيطروا على صنعاء أواخر 2014، نشر فارس أبو بارعة القائمة السوداء التي أطلقتها مطابخ الجماعة المسلحة ضد الصحفيين. رأيت اسمي محشوراً في القائمة.


كان أبو بارعة من أوائل اليمنيين النشطين الذين عرفتهم على فيسبوك، باستطاعة المرء في ذلك الوقت أن يبدو مفكراً، عليه أن يجذب الجمهور بإصبعه اللصيقة بالقرب من أذنه وعينيه الشاردتين بعمق في الصورة. كان لفارس أبو بارعة ثلاث صفحات، الإعلامي فارس أبو بارعة صفحة أولى.. الإعلامي فارس أبو بارعة صفحة ثانية، الإعلامي فارس أبو بارعة صفحة ثالثة.


وفي تلك الفترة سنة 2010 وبدء تسللنا إلى فيس بوك، كان الإنسان جشعاً يريد أن يحصل على أكبر عدد من الأصدقاء الافتراضيين ولذا لا يتوقف عن المنافسة بإرسال الطلبات، لا شك أن أصبع المفكر تقرشت وهو يفعل ذلك، وكم كنت أعاتب نفسي لماذا لم أعرف أبو بارعة وأجهل إنتاجه، ولديه كل تلك الصفحات وكل أولئك الأصدقاء. كما سأكون سعيداً لو أتعرف عليه وأعرف أعماله.


بين 2011 إلى 2013، كنت أراسل بعض الصحف المحلية، وعملت في صحيفة الأهالي. كانت الصحيفة تفرد مساحة لتناول الحوثيين وتنتقدهم، الانتهاكات، الجرائم، فتحنا ملف الألغام التي زرعتها المليشيا في حجة، مأساة دماج،  والأهم من ذلك، كنا نتناول معتقدات الحوثي وأفكاره بعمق. كان المتخصص زايد جابر، هو الكاتب الرئيسي الذي يدق الحوثيين في الصميم، كنا أول من كشف الوثيقة الفكرية، الاصطفاء، الخمس.


في ذلك الوقت تعرفت على الإعلامي فارس أبو بارعة، كان بسيطاً للغاية وهيكلاً، ليس انتساباً للصحفي هيكل، وإنما للهيكل العظمي، عرفت أنه كان يجلس في خيمة الصمود التابعة للحوثيين، ومن حينها، كلما رآني شخص من أبناء خيمة الحوثيين وهو يعرف أني أعمل في صحيفة الأهالي، تقطع لي وأنا في طريقي إلى محاضرات الكلية، ليلقي عليَّ محاضرة مطولة تنتهي في الغالب بمشادة بين فريقين من المارة.


كنت في موقع الأهالي نت مع الزميل محمد الجرادي، نقوم بنشر المواد، تلقيت رسائل تهديد من أرقام مجهولة وصفحات بأسماء حقيقية بالفس بوك، أخمدتها بالتجاهل وعدم الرد. وفي تلك الفترة، كنت أصادف فارس أبو بارعة، أحياناً في كلية الإعلام ذات المبني المتهالك، قبل أن يقفز فجأة من طارود الكلية إلى القصر الجمهوري بعد اقتحام الحوثي لصنعاء. كان أبو بارعة يستقبل الوفود بالقصر ويناقش معها قضايا البلاد العالقة، رأيت اسمي واسم الزميل محمد الجرادي ضمن القائمة السوداء للصحفيين اليمنيين حسب منشور أبو بارعة، صفحات الحوثيين تداولت القائمة، لم أكترث ولكني شعرت بالتحامل على فارس: هل تجمل بنا ليعينه الحوثيون لاحقاً وكيلاً لمحافظة حجة؟


لا أعرف.. وعلى كلٍ، فبعد انتهاء مصلحة الحوثيين منه سيرمونه رمية العظام، وقد فعلوا، ليعود ناقداً من حيث أتى: الفيس بوك وبصفحة واحدة.


هذه التراكمات، ربما هي التي جعلتني مستنفراً سنة 2019، بعدما نقل لي أحد الشخصيات الاجتماعية أنه سمع متحوثي البلاد يرددون اسمي، ويؤكد علي بأنه لا أحد سيقدر على التوسط لإخراجي من عند الحوثيين: «أنت معك فيس بوك...».


وبعد أن استثقلت حمل البندقية نهاراً أمام الناس، وبدأت أحدث نفسي أن الحوثة لن يأتوا وعليَّ أن أتخلى عنها، جاء إلي متحوث يعاتبني لأني كتبت قصيدة عليهم. استغربت، أنا لا أكتب شعراً، أنا أكتب مقالات ومنشورات على المنبع رأساً. سيغيب المتحوث لفترة، اكتشفت أنهم أدخلوه معتقل الصالح وخرج منزوع الأظافر مصعوق الجسد لأنه عصى أمر قيادي حوثي هرب من الجبهة فهرب معه، في المعركة التالية رفض أن يتقدم إلا مع القيادي أبو نصر، وإثر ذلك قام أبو نصر بقتله.


المليشيا تمارس إجرامها في الأقبية تحت الأرض كما تمارسه فوق الأرض، حتى مع اليمنيين الذين تحوثوا وتماهوا معها، من الأفضل المواجهة في الفضاء المفتوح على الاختناق بالأقبية. أنا عندي الربو. في ذلك الوقت كنت أتنفس بالكتابة، وأخطط بالثمن الذي على الكاتب أن يدفعه. اشتريت خزانة رصاصة أخرى أيضاً، ولكني لم اشتر الرصاص إلى أن غادرت.


*


في بيئة الحوثيين، يتناحر في ذهن الكاتب هاجس الكتابة وثمنها. ليس الثمن الذي سيتلقاه مقابل الكتابة، إنما الثمن الذي سيدفعه من حياته، أو بالأصح سيأخذه الحوثيون عنوة من عمره وصحته.


يتوقع الكاتب الذي ينشر كتاباته الناقدة والفاضحة للحوثيين أي شيء. رواد مواقع التواصل الاجتماعي يتوقعون ذلك أيضاً، يؤمن اليمنيون أن الجماعة تتعامل معهم كطرف مقابل، ويؤمن الحوثيون بوجود فوارق بينهم وبين اليمنيين، حتى أنهم لا يثقون باليمنيين الذين تحوثوا، يحققون بهم المصالح حتى يحين وقت الاستغناء عنهم.


يؤكد الحوثيون أنهم وصلوا إلى القوة التي تمكنهم من مشاكسة الدول العالمية، يصرون على هذه المعادلة: قوة فرط حوثية بلغت الذروة مقابل عجز وإنهاك، بلغ الذروة أيضاً بالنسبة لليمنيين.


لكن الناتج يكشف خللاً في المعادلة، إذ يعيش الحوثيون وهم في ذروة القوة كما يدّعون، حالة هستيرية بلغت ذروتها خلال الأيام الماضية من شهر سبتمبر المجيد. وخلال الأيام الماضية، لم تتوقف حملات الاختطاف التي يشنها الحوثيون على اليمنيين، في المناطق التي يسيطرون عليها، صنعاء، إب، تعز، عمران، وغيرها.  


الحملات ليست مقتصرة على الكُتَّاب، يستهدفون حتى النساء أيضاً، من احتفل بعيد 26 سبتمبر العام الماضي، ومن كان ينوي أن يحتفل بالعيد هذا العام، في القرية أو المدينة، مداهمة واقتحام منازل من جهز إطارات السيارات التالفة ومن اشترى الأعلام، الشيخ والشاب، أصحاب الدراجات والسيارات، المحامون والمعلمون، حتى الغولي الذي ساعدهم في دخول منطقته، واحتفل معهم في نكبة 21 سبتمبر والمولد، وبدأ ينشر ابتهاجاً بعيد 26 سبتمبر، عبر عن خوفه من الأطقم الحوثية التي أخذت العشرات، وكلما مر طقم ظن أن دوره قد حان.


غالبية المختطفين اليمنيين، لم يهاجموا الحوثي أو ينتقدوه، كلما فعلوه أنهم عبروا عن ابتهاجهم بيوم 26 سبتمبر، وهم يعيشون بقية أيام السنة في عناء.


لم يكن اختطاف الصديق الكاتب محمد دبوان المياحي وحده، دليلاً على تطور العته لدي المليشيا هذا الأسبوع. اختطف الحوثيون ومازالوا يختطفون مئات اليمنيين واليمنيات، بحكم "نية الاحتفال بـ 26 سبتمبر، وان بعض هؤلاء اليمنيين كشفوا عن نواياهم "الخطيرة" بالكتابة في فيسبوك ووضع إطار عيد سبتمبر على صورهم أيضاً.


جدير باليمنيين بما في ذلك المتحوثين أن يدركوا أن المواجهة بين طرفين: اليمنيين والحوثيين..


يمن شباب نت