لا تكن عبد المعتاد
"الإرادة والعادة ضدان" قبس من إرث النور، الإرادة نفي لسلطان العادة، اختيار حر، تعبير خالص عن الشخصية وفرادة الحضور. كينونة، امتلاء، وجود حقيقي وفاعل.
الإرادة هي المبدأ الأساس لكل مافي الوجود، بزوالها يزول الوجود.
الإرادة تكون أنت، فيما تريد وترغب.
العادة قيد يكبل الروح ويشل العزم، والإستنامة لخدر العادات طريق إلى العدم.
أن ترهن نفسك للمعتاد، أن تعيش بشروط الواقع الخارجي، بحسب اختيار الآخرين. لا تقرر، لا تختار ولاترغب أو تريد وإنما تسير وفق السائد والمألوف، كما أريد واختير لك، ان تحيا بنفسية عبد مذعن، مقهور، تابع، لا رأي له ولا قرار.
أن تكون مجرد رجع صدى لغيرك، ظلا باهتا للآخرين ببغاوي الصوت، لا وجه ولا وجهة، ترى بأعين غيرك، تتكلم بسوى لسانك، تعيش خارج ذاتك وقناعاتك، منقسما بين هذا وذاك، مشتتاً ممزقاً بين إرادات كثر، مُبدداً عمرك في إرضاءات مستحيلة.
الوقوع في شرك العادة إمَّعية، افتقاد للوزن والقدر، شلل للعقل والروح، وفقدان لشرف المبادرة في الفعل، قتل للطموح، استسلام للجمود والرتابة، انطفاء لأشواق الحياة، يأس، انتحار، وهرب من تحمل عبء الحرية، وتخلٍ سهلٍ عن المسؤولية في العمل والتغيير.
الاستسلام للعادة هدر للروح وللزمن، تعطيل لأسباب القوة، عوم في ذات الماء الآسن، اجترار دائم للعفن.
الإرادة اجتهاد وكدح مستمر، ولو كان في الطريق بعض الخطأ، «فالخطأ الخصب قد يكون خيرا من الصواب الراكد والدقة العقيمة» والمعرفة قرينة الخواء بتعبير كارل بوبر.
ثمة خطأ يحرك المياه الراكدة، ينعش، ينشط يحفز على البحث والغوص والحفر في تراب كنوز خبيئة لم تكن على البال.
لقد خلقك الله حراً، وأرادك أن تكون أنت، وزودك بكل ما يجعل منك إنساناً ذا شخصية مستقلةٍ قادرةٍ على الاختيار وتحمل مسؤولية ما تختار وحررك من كل الأغلال وحملك أعباء حريتك كاملة، ولم يترك لك شماعات تعلق عليها خيباتك.
وأنكر الأبائية والتبعية العمياء لأفكار وتصورات ومعتقدات ومواضعات الآخرين، آباءً أو حكاماً أو قادةً كبراء ممن قد يؤثرون على قراراتك واختياراتك، وفي ذلك آيات بينات تفصل في هذا الأمر وتحرر الإنسان من كل علاقة تحول بينه وبين حريته وإرادته وتحمل مسؤولياته.
العيش وفق العادة موت، انطفاء، انمحاء، وتلاش وغياب واختناق في الهوامش المعتمة.
حين تنهزم إرادة أي مجتمع فإنما يصب ذلك في تقوية سلطان العادة، والمجتمعات التي تطغى فيها العادات السالبة هي بيئات صالحة لتفشي كل أشكال التخلف وصور القهر والطغيان والاستلاب ونشوء الديكتاتوريات المستبدة.
التاريخ لا يصنعه أسارى العادات، عبدة التقليد والجمود، وإنما يصنعه الاستثنائيون، أصحاب الإرادات الحرة والعقول المبدعة، والهمم العالية، الشجعان والمغامرون أصحاب الجسارة والطموح المجنح، عشاق الحياة، صناع الجديد والأجد والأجمل والأكثر فرادة.
حقيقة الإنسان وجوهر قواه وطاقاته لا تبدو ولا تظهر إلا في خضم التحديات ومواجهة المستحيل.
الإنسان كون هائل من الأسرار، معجزة كبرى تستدعي التأمل والنظر في الأعماق «وفي أنفسكم أفلا تبصرون».
ومن لا يكتشف كنوز ذاته سيكون أعجز من أن يكتشفها في محيطه الخارجي، وسيظل يشكو الفقر والفاقة في حالة جوع لغناه الحقيقي.
"كنزك فيك " ومن لم يتعرف على ذاته لن يعرف الله، بحسب تعبير متقدم في فوائد ابن القيم. ومنه قوله كذلك "منشور اختيارنا لك واضح لكن إستخراجك ضعيف".
وأن تدرك أناك وتعرف ذاتك أول خطوة على طريق معرفة الله «الاعجاب والدهشة أعظم شكل من أشكال معرفتنا للحياة» بتعبير بيجوفيتش، والإعتياديون قلما يعجبون ويدهشون. هم دائما باردو الاحساس ميِّتو الشعور، وهم الأقل إيماناً ويقيناً، والأقل حمداً وشكراً لله على نعمة الوجود.
والحياة والكون عوالم موارة بالأسرار، حجبها الخالق تكريما للإنسان كي يعمل عقله ويستنفر جهوده وطاقاته في العلم والبحث والاكتشاف والمعرفة، والتسخير وصناعة الحضارة.
ويبدو الحلم والخيال والفضول والتطلع والنزوع الحر لتجاوز المحدودية والرغبة في التحقق وكسر المألوف ضمن إمكاناتنا الأساسية التي زودنا بها المولى كي نحلق في الأفاق ونبدع وننجز ونصنع حيواتنا ومصائرنا على اكمل وجه.
الإنجازات العظيمة والإضافات الفارقة هبة الأرواح الملهمة والعقول الاستثنائية المبدعة و "المعرفة قلق عظيم " كما قيل
لم يقدم لنا الخالق وجودا جاهزا، كي نقف ونكتفي ونركن ونتخشب ونغيب، بل ترك لنا المجال مشرعا لاختبار طاقاتنا وعقولنا واراداتنا وقدراتنا على الصعود والارتقاء وبلوغ القمم. وتأكيد الحضور منذور أنت للارتفاع فوق كل أسباب الثقل وبواعث الإخلاد، مجبول على التسامي فوق الضرورات المجهضة لأشواق الروح، فوق المحدوديات والعاديات، المحدود بالنسبة اليك منطلق نحو اللامحدود واللانهائي، ومن يقين العلو يهتف بك الشاعر "الجمل" ببيت هو الجمال، يتلامع بين الأرض والسماء:
وكن رجلاٌ رجله يالثرى
وهامة همته في الثريا
قدرك أن تكون، أن تقول كلمتك وتؤكد ذاتك وتحيا ملء زمنك سيد نفسك، وجودا معترفا به غير قابل للإنكار أو التهديد او التقويض.
قدرك أن تريد، وترغب، وتقرر، وتختار، وتبدع، وتنشد الأعظم والأجل والأسمى والأعلى، غايتك مالا ينال.
مقـدامٌ أنت وسـبّاقُ وأبيٌّ أنت وعمــلاقُ
أشواقُك لا ترجو إلا ما قَصُرتْ عنه الأشواقُ