على هامش لقاء الرئيس

«الساعة ثمانية الصباح تكون بالجامعة.. احمل معك البطاقة الشخصية.. أنت مدعو لحضور لقاء». تلقيت هذه الرسالة بوقت متأخرٍ من الليل، تأخرت في الرد للحظات. أنا أستيقظ مبكراً هذه الأيام، منطق المسؤولية يقضي بتحسين الدخل وتعدد مصادره، النفقات تزيد، الوضع الاقتصادي متدهور، زيادة الإنتاج مرتبطة باستشعار قيمة العمل واكتساب مهارات جديدة. أنا أفعل ذلك بجد. من قبل أسبوعين بدأت أستيقظ الصباح، أعمل ساعات النهار، وفي الغالب أتصفح الرسائل أو أرد على الأصدقاء وأنا على وشك النوم.


بعد لحظات، أرسلت لعبدالعزيز مستفسراً عن الجامعة التي سأذهب إليها تلبية لدعوة اللقاء:


جامعة تعز؟


أكد: نعم.


لم أخض في تفاصيل الدعوة لاحتياطات أمنية رقمية، حللت: «أكيد يقصد لقاء الرئيس» المدينة تتهيأ أخيراً لأول زيارة لرئيس يمني منذ 14 سنة، توقفت قليلاً. لن أذهب كي لا تتأثر العادة الجديدة التي أحاول اكتسابها في العمل صباحاً. حاولت أتهرب بتحميل الزميل عبدالعزيز تكاليف الحضور، مازحني ملمحاً لأهمية اللقاء، لأهميتي. وبما أنه لقاء مع الرئيس، فإن المدعوين وأنا منهم ملزمين بقول أشياء للرئيس، انهمكت بالتفكير:


ماذا سأقول للرئيس؟.  


لم يسبق أن تلقيت دعوة لمقابلة مسؤول رفيع من قبل، لا أحب الفعاليات التي يطغى عليها طابع المدح والتمجيد، أنا مرتبك، حضوري ضروري ومهم. لو أراد الرئيس أن نسمع منه لما دعانا، سنسمعه من التلفزيون، يريد أن يسمع منا، أن نكاشفه حول القضايا العالقة، لابد أن أكون صادقاً فيما سأقوله: المعركة.. الإعلام.. الشباب.. العدو.. الجمهورية.. تشتت القيادة.. البوصلة. أخطط لما سأقوله، أزيل فكرة، أتخلى عن أخرى، أبني فقرة لفكرة جديدة في ذاكرتي، أرتبها، أسمعها في الوعي الباطن. أوف لا تنفع في لقاء مثل هذا، سأقول موضوعاً جديداً: منذ أسبوعين بدأت أرتب وقتي، أصطبح مبكراً، أبدأ بفذحة القات والعمل، أستمر حتى ساعات الليل الأولى، أرهق وأنام. صرت لا أجد وقتاً لمواجهة خصوم البلاد، أشعر بالخيانة وتأنيب الضمير، لا أريد وظيفة تغطي احتياجاتي الاقتصادية، ملايين الشباب بلا عمل، نبحث عن إصلاحات اقتصادية تحسن سعر العملة ويمنحنا قليلاً من الوقت لأداء الواجب الوطني. كلمة فضفاضة، دافعها شخصي. لابد من فكرة جديدة أعم وأوضح.


ما زلت أرتب كلمتي التي سأقولها للرئيس، نمت قبل الفجر، استيقظت بعد السادسة بقليل، كانت نفسي تقول: «دعك من لقاء الرئيس.. اذهب لسوق القات.. اشترِ الفذحة وقم بعملك» وكنت أقول لنفسي: «أنا مدعو للقاء استثنائي، وطني، وصريح، لا بد أن أكون عند مستوى المسؤولية، الغياب عيب، حضوري مهم للغاية، الرئيس سيكون في الانتظار، من العيب أن نخذله، نخذل البلاد.. إلخ».


منع الجنود مرور الدراجات النارية في الشارع المؤدي للجامعة، تفهمت الإجراءات، ونزلت. كانت أمامي نقطة لجنود من الأمن المركزي، من الاتجاه الأسفل للشارع، كان أحدهم منتعشاً، أوقفني، أنا المدعو للحضور، لم أكتف بإبراز البطاقة الشخصية كما أبلغني عبدالعزيز، أخرجت جواز السفر أيضاً، سألني المساعد: «أنت من بين الستين الذين سيقابلهم الرئيس؟». «نعم» أكدت وطفقت أتخيل ما إذا كان وجودي بين الستين، سيكون مفيداً وسأعرف أوصل صوتي للرئيس، لم يمنحني المساعد وقتاً لإطالة أمد الخيال، طلب مني أن أذهب لنفس الشارع من الاتجاه الأعلى، حيث المدينة السكنية، أن ألتف من الشوارع الخلفية للدخول إلى الجامعة التي أرى بوابتها على نحو ثلاثين خطوة. المسافة الجديدة التي اقترحها المساعد تتطلب مشواراً فوق باص أو على دراجة نارية، أخذت مصروف الأطفال لأصل إلى المكان وأحضر اللقاء المهم. ورطة، من يقنع الفندم أنني سأقابل الرئيس. اتصلت لعبدالعزيز، الهاتف مغلق، مازحت المساعد: أنت تتحمل المسؤولية الكاملة عن الخسارات المحتملة التي سيسبها غيابي المزعوم، سيحاسبك الرئيس.


بالنسبة لمساعد في الأمن مركزي يقوم بأول مهمة له منذ تسع سنوات، لم تُحرك المزحة حتى عصبة من أعصاب وجهه. هل ردني لأني لا أرتدي جزمة سوداء أبو تمساح؟. انتظرت قليلاً، جاء أربعة مصورين يرتدون الجزمات الأنيقة، مشيت جوار المصور حسام القليعة، قالوا للمساعد أنهم ليسوا من الستين الذين سيقابلهم الرئيس وإنما صحفيين، نظر المساعد ناحيتنا وقال: وين الصحافة من هذي الوجوه؟  رد المساعد ناشطتين أيضاً، تفهمت الإجراءات الأمنية، أتفهمها، ولكني لا أرضخ لمقترح الإلتفاف.


انتظرت أكثر من ساعة مع المصورين، نبحث عن حل، إلا أن بشرنا حسام القليعة، أحدهم أرسل كشف الأسماء، في ذلك الوقت كان جنود الأمن المركزي قد سمحوا للناس بالمرور، لكن الكشف يؤكد بأننا مهمين رغم أننا نسير في شارع يسير فيه الجميع.


ونحن نتقدم للأمام، سنبدأ نلتقي بمن نعرفهم. اعتذرت لعبدالعزيز الذبحاني مراسل قناة يمن شباب عن الإدلاء بتصريح، كما فعلت مع علاء خالد، مراسل قناة بلقيس «أنا أعرف أكتب، مااسكيش اصرح». كنت خائفاً على الفقرة التي سأقولها للرئيس، أن أنساها، أن يخالطها شيء من التصريحات. وجدنا الشخص الذي يحمل البطائق التعريفية التي سنعلقها على رقابنا وندخل الجامعة للقاء الرئيس. الدخول من البوابة الخلفية، لم أستغرب، أنا أتفهم الإجراءات الأمنية خاصة في الوضع الراهن. اتجهت نحو البوابة الخلفية، أنا وأحمد باشا، طارق البنا، حسام، وآخرون لا أعرفهم. رأيت جنودا من البلاد، أخبروني أن البوابة التي أتجه إليها ليست البوابة المنشودة، البوابة الخلفية ما زالت بعيدة، ولأن البطاقة التعريفية معلقة على رقبتي كصحفي مصحوبا بوصف «الإعلاميين والمثقفين وصانعي الرأي» سيوقفون السيارة التي ستأخذنا إلى البوابة المنشودة.


هناك سألتقي بمعاذ منصر وأيمن قائد، يعملان لقناتين كرديتيين. أبلغنا جنود الأمن: ممنوع إدخال أجهزة الهواتف، الأقلام، الساعات أيضاً المرتبطة بالأقمار الصناعية، والأشياء التي يستخدمها محترفو الجرائم، نحن نتفهم هذه الإجراءات وخاصة في الوقت الراهن، فعلى مسافة قريبة من حاجز التفتيش، بعض من ذكريات الجريمة التي ارتكبتها مليشيا الحوثي: مدرسة مدمرة.


لم يبق غير الوصول إلى القاعة بالمرور على الإجراءات الأخيرة: التأكد من البطاقة، ثم التفتيش السريع، ثم الجهاز الذي يؤكد أننا  لانحمل مواد خطرة.


أول مفاجأة لي، أن اللقاء لم يكن مختصاً بالشباب أو المؤثرين، الشخصيات الاجتماعية والمكونات السياسية والمبادرات النسائية، العدد لم يكن ستين شخصاً، كانوا أكثر بكثير، ما أضعف أملي بالقول المختبئ في ذاكراتي والذي كنت سأقوله للرئيس؛ لأشغل وقت الانتظار بتأمل القاعة.


*


لا أفهم لماذا تجلس النساء في الجانب الأيسر من القاعة والرجال في الجانب الأيمن. عندما درست بجامعة صنعاء سنة 2009، كان الأمر نفسه: الطالبات في الجانب الأيسر، الطلاب في الجانب الأيمن. في قاعة انتظار الرئيس تذكرت الجامعة، المقاعد الأولى للمبكرين وأصحابهم، كان عارف جامل في الصف الأول، لم أعرف الآخرين وما إذا كانوا قد ناموا هناك أم لا.


في الفعاليات التي يحضرها صحفيون، يقف الصحفيون في الصف الأخير في الغالب. كان من الرائع أن ألتقي بزميل الدراسة، مراسل قناة الحدث هائل الشارحي، سيحمسني لدراسة الماجستير ويقف بجانبي مشجعاً، أحب علم الاجتماع، وهائل يدفعني للعلوم السياسية، وأنا أعيش بلا ميول سياسية.


في آخر الصف، كان يجلس رسام الكاريكاتير المعروف رشاد السامعي، وإلى جواره بعض الزملاء. طال وقت الانتظار، أنا أنام مبكراً وأفطر مبكراً، فرحت حين اقترح نائف الوافي أن نخرج لنشم هواء ونبحث عن سندويتشات وليدبر المدخنون أمر دخانهم في الخارج.


ردنا القائمون على كوم الوجبات الجاهزة، إنها مخصصة للمرافقين القادمين من عدن، نظر الوافي يمنة ويسرة، ورأى قطعة بيتزا جوار عامل نظافة نائماً، يبدو أن العامل مرهقاً من الليل. في الأثناء أعاد الجنود انتشارهم من جديد، ظننا أن الرئيس وصل فعدنا إلى القاعة.


لم أعرف أحدًا من الشخصيات الاجتماعية، تناقشت مع عبدالسلام القيسي في الموضوع، لابد من حضور الشخصيات البارزة القادرة على تحريك الناس في الميدان، نحن في حرب، نحتاج المؤثرين على الأرض، لا متصنعي التأثير وضيوف العلاقات الشخصية والحصص السياسية. في القاعة، كان عبدالسلام القيسي يحظى بالمجاملات لقربه من العميد طارق صالح عضو مجلس الرئاسة، لم يكن هذا شأني وأنا جواره، نحن جيران في البلاد، ووديان القيسي كثيرة، قد أحظى "بتخازين" رائعة عندما تتخلص بلادنا من وباء المليشيا.


نسيت ما كنت سأقوله، تأخر الرئيس، دخل أمين عام التنظيم الوحدوي الناصري، المحامي عبدالله نعمان برفقة عبدالملك المخلافي، سيجلسان في الصف الأمامي رغم الحضور المتأخر، هل يقول هذا التموضع أن القوميين يديرون الشرعية، وأن الرئيس أعاد تموضعه السياسي مع الناصريين؟ لا أعتقد. كان سيقول ذلك لو لم يكن عبدالقوي المخلافي رئيس لجنة الاستقبال مثلاً، بالإضافة إلى دخول وزير الشباب والرياضة نائف البكري مع مجموعة من الوزراء إلى القاعة، وقد طمأنني الرفيق الاشتراكي العزيز رامز الشارحي حول عمل الرئيس وكأنه أحد أصحابه، أنا أثق برامز..


كنت في الصف قبل الأخير، جلس على بُعد كرسيين مني، البرلماني عبدالكريم شيبان، كان يحمل ظرفاً كاكي اللون، أخرج منه بضعة أوراق، لم يحتاج الجالسون في الجوار الكثير من الوقت لمعرفة ماذا تحتوي الأوراق التي يحمل شيبان، كان شعار نادي أهلي تعز في كل ورقة، وقد هرول نحو وزير الشباب والرياضة لتوقيعها.


سيدخل الرئيس إلى القاعة، لم يحصل أن تأخرت بالغداء لهذا الوقت في الفترة الأخيرة، لم أنتبه إلى المسؤولين الذين دخلوا برفقة الرئيس، كثيرون لم يعرفوا كما خمنت، ولهذا وحين تحدث الرئيس عن وجود وزير الدفاع الأسبق محمود الصبيحي في المكان، ستشهد القاعة أطول تصفيقة مرحبة بالرجل المحترم محمود الصبيحي.


أثناء سكتة الرئيس الطويلة إلى حدٍ ما، بين فقرتين، قلت لمن بجواري: «ليت بينه دست عصيد» رأيت الجوع على وجوه الآخرين، ليجد عواد الوهباني، مراسل قناة اليمن اليوم، فرصة للحديث عن بروتوكولات اللقاءات أيام الزعيم "الله يرحمه": كان إذا تأخر، ما يمشي إلا وقد أكَّلهم كباش..


نسيت ما كنت سأقوله، لم يقل الآخرون شيئاً، أعتقد أن الرئيس قال ما كنا نود أن نقوله مع بعض الملاحظات.


حضور الصف الأول للدولة، كشف كم أن الناس بحاجة إلى رموز، يحملون المشروع الوطني الكبير ويعملون لأجله، وهذا الذي جعلنا منتظرين للعصر، ويجعلنا مستعدين للبقاء إلى ما بعد المغرب حتى، بلا أكل ولا ماء!.

يمن شباب نت