النخب العربية والتطبيع مع الجريمة

منذ حوالي نصف قرن من الزمان صعد عنوان "التطبيع" مع الكيان الصهيوني إلى الواجهة بعد أن أقدمت على هذه الخطوة حكومة أنور السادات في مصر منتصف سبعينيات القرن الماضي، ورغم الرفض الشعبي والرسمي العربي لهذه الخطوة التي لم يقدم الإسرائيليون لها أي مقابل حقيقي إلا أنها لم تختفِ تماماِ من أجندة اجتماعات ونقاشات الأنظمة العربية طيلة العقود الماضية.

ومع أن الأردن تبعت مصر وطبعت مع إسرائيل عام ١٩٩٤ فيما عرف حينها باتفاقية السلام في اجتماع شهير عقد في وادي عربة إلا أن هذا الأمر ظل مرفوض شعبياً وفي أوساط النخب العربية التي لا ترى في ذلك سوى مباركة الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني.

انتقلت فكرة التطبيع مع إسرائيل إلى مرحلة أخرى عند طرح العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز مبادرة أقرتها الأنظمة العربية في ٢٠٠٢ قامت على الاعتراف بدولة إسرائيل مقابل قبول إسرائيل بحل الدولتين على حدود ٦٧ لكن التعنت الإسرائيلي أعاد تلك المبادرة إلى الظل إذ تسعى للحصول على تطبيع مجاني دون أن تقدم أي مقابل.

ومع إصرار إسرائيل على الحصول على مكاسب مجانية مستندة إلى الدعم الأمريكي والغربي عموماً وعلى غياب المشروع والقيادة العربية التي تستطيع ضبط إيقاع السياسة العربية التي تسير وفق مصالح قطرية متوهمة فقد حققت مؤخراً اختراقات كبيرة وتمكنت من عقد اتفاقيات تطبيع مع أنظمة عربية كان في مقدمتها الإمارات والمغرب والبحرين والسودان.

تقوم السياسة الإسرائيلية على الفصل التام بين ملف علاقتها بالدول في المنطقة وبين ملف تعاملها مع الفلسطينيين، وبالتالي فإنها تمارس جرائمها بمأمن عن حدوث أي رد فعل من قبل الأنظمة العربية التي غرقت في مستنقع الضعف والارتهان للخارج هرباً من استحقاقات نيل الشرعية الشعبية محلياً، إذ باتت عقيدة الأنظمة في المنطقة أن الرضا الأمريكي الإسرائيلي يعفيها من خطب ود شعوبها ويحصنها من ارتدادات أي حراك شعبي محتمل على غرار ما شهدته المنطقة في ٢٠١١.

مؤخراً عاد ملف التطبيع بقوة رغم العجرفة والبلطجة التي تمارسها إسرائيل متجاوزة ما مارسته خلال العقود الماضية، وشعرت كثير من الأنظمة أن عملية طوفان الأقصى وما تبعها من تصاعد موجة العنف قد كشف تلك المخططات التي كان يراد تمريرها بهدوء مقابل وعود جديدة لا علاقة لها بحل الدولتين ولا بحقوق الفلسطينيين.

إلا أن مؤشر الخطر هو انتقال "التطبيع" كمفردة وخطاب من دهاليز المكاتب الحكومية وملفات المعنيين بالسياسة الخارجية إلى طاولة ومنصات النخب الثقافية والإعلامية والفكرية وهو ما ينقل هذه الجريمة إلى طور جديد أشد تدميراً لمسار الصراع العربي الإسرائيلي وأكثر إضراراً بالقضية الفلسطينية.

وبالنظر إلى الوراء فإنه وطوال فترة تطبيع النظامين المصري والأردني مع إسرائيل فقد ظل هذا التطبيع في سياقه الرسمي ورغم الجهود الحثيثة التي بذلتها إسرائيل لنقل هذا التطبيع إلى الفضاء المجتمعي ومحاولتها اختراق النخب فقد ظل ذلك التطبيع مجرماً وكان من يتجرأ على ممارسة تطبيع من أي نوع أو الترويج له كمن يحرق أشرعته ويخوض مغامرة قد تنهي مستقبله المهني تماماً.

اليوم ومع حماس دولة الإمارات لخطوة التطبيع التي أقدمت عليها مع إسرائيل، فقد جندت آلتها الإعلامية لمحاولة الترويج للكيان وتبييض جرائمه من خلال تجريم المقاومة الفلسطينية متجاوزة بذلك الخطاب الغربي في الدول التي تتبنى إسرائيل كذراع عسكرية متقدمة في المنطقة لخدمة مشروعها الاستعماري، وهذا الترويج للتطبيع يعد سابقة لم تعهدها المنطقة العربية من قبل خاصة أن محاولة تبييض التطبيع تجاوز حده ووصل إلى مربع تجريم نضال الفلسطينيين وتضحياتهم ضد الاحتلال.

توغل إسرائيل في جرائمها وفي نفس الوقت تغرق المزيد من النخب العربية، وخصوصاً الموجة الجديدة في أوساط المثقفين الخليجيين، في خطاب تطبيعي وصل حد إدانة الضحية والتبرير للجلاد، وتحاول التغطية على خطابها بشماعة علاقة فصائل المقاومة بإيران واعتبار هذا إدانة كافية لتجريم المقاومة الفلسطينية التي نصبت دوائر الحكم العربية الحواجز أمامها ودفعتها بعيداً تحت مبررات مختلفة.

وبالنظر إلى هذه الملابسات فإن التطبيع مع إسرائيل اليوم أو الترويج للتطبيع لم يعد سوى تطبيع مع الجريمة ذاتها وقد انكشف ذلك لقطاعات واسعة من النخب والقطاعات الشعبية في العالم الذي كان دوماً مؤيداً لإسرائيل دون تحفظ.


* المقال منشور على موقع المصدر أونلاين