مراكز الخداع.. أدوات الميليشيا الحوثية الناعمة لتدمير الشرعية من الداخل

المقدمة: الحوثية لم تنتقل إلى الحرب الناعمة.. بل بدأت بها منذ اليوم الأول لانقلابها على الدولة، أدركت الميليشيا الانقلابية الحوثية المدعومة من إيران أن السيطرة بالسلاح لا تكفي لبناء نفوذ دائم. فمنذ سيطرتها على صنعاء في 2014، تحركت الميليشيا بخطة مزدوجة: قتالٌ في الميدان، واختراقٌ ناعم في المجتمع والدبلوماسية والإعلام.

كانت تدرك أن السلاح يُخيف، لكن «الوعي» إذا أُخضِع سيُسلمُ دون مقاومة. لذلك أطلقت منذ الأيام الأولى شبكات “مدنية” ظاهرها العمل الحقوقي والبحثي، وباطنها تنفيذ مشروع المد الصفوي الإيراني في اليمن، عبر خطاب يُخاطب المانحين والغرب بلغة “السلام” و”الحياد”.

أولاً: التمويلات الدولية.. من الأمل إلى الخداع

منذ 2015، تدفقت إلى اليمن مليارات الدولارات من المانحين والمنظمات الدولية. كان يُفترض أن تذهب للمستشفيات والتعليم والإغاثة، لكنها تحوّلت إلى سلاح ناعم في يد الميليشيا الانقلابية. فبدلاً من بناء المؤسسات، ساهمت بعض تلك التمويلات في بناء نفوذ بديل داخل المجتمع المدني والإعلام، يعمل على شرعنة الانقلاب وتبييض جرائمه.

في كتاب فرودويكي “حقائق التمويلات الدولية لليمن – تاريخ مأساوي من الأمل إلى الخداع”، وُثّق كيف وُجّهت مساعدات باسم التنمية والسلام إلى كيانات تخدم فعليًا أهداف الميليشيا، وتعمل على إضعاف الحكومة الشرعية وتقويض مؤسسات الدولة.

حين اندلعت الحرب في اليمن عام 2015، تدفقت مليارات الدولارات إلى البلاد من مختلف الجهات المانحة: الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، بريطانيا، هولندا، ألمانيا، الدول الإسكندنافية، والمؤسسات الإنسانية الكبرى.

كان الأمل أن تُنقذ هذه المساعدات شعبًا أنهكته الحرب، وأن تُعيد بناء ما تهدّم من المستشفيات والمدارس، وتُرمم مؤسسات الدولة التي أطاح بها الانقلاب الحوثي. لكن ذلك الأمل تحوّل تدريجيًا إلى خداعٍ من نوعٍ آخر، إذ تسلّلت الميليشيا الانقلابية الحوثية المدعومة من إيران إلى قلب منظومة التمويل الدولية، واستطاعت تحويلها من أداة إنقاذ إلى سلاح ناعم يخدم مشروعها الصفوي في اليمن.

بداية الانحراف: كيف تمكّنت الميليشيا من “إدارة” المساعدات

منذ الأيام الأولى لسيطرتها على صنعاء، أدركت الميليشيا أهمية المال الدولي كأداة سلطة. فأنشأت أذرعًا “مدنية” تعمل تحت لافتات رسمية مثل المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية (SCMCHA)، لتتحكم عبره بكل منظمةٍ دوليةٍ أو محليةٍ ترغب بالعمل في مناطق سيطرتها. بدأت تفرض شروطًا على التنفيذ، وتختار الشركاء المحليين، وتُقيّد حركة العاملين، وتفرض رسومًا تحت مسميات “إشراف” و”تنسيق” و”تصاريح”.

تحوّل المشهد الإنساني إلى سوقٍ مغلق تحت رقابة أمنية حوثية، تُحدّد فيه الميليشيا من يُسمح له بالعمل، ومن يُمنع، ومن يحصل على التمويل، ومن يُدرج في “القائمة السوداء”. وهكذا، تحوّل التمويل الدولي من وسيلة لمساعدة اليمنيين إلى وسيلة لتغذية سلطة الحوثيين الانقلابية، وتثبيت شبكتها في الداخل والخارج.

من الإغاثة إلى النفوذ: كيف وُجّهت المساعدات إلى الميليشيا

في كتاب فرودويكي  “حقائق التمويلات الدولية لليمن – تاريخ مأساوي من الأمل إلى الخداع” ، تم توثيق عشرات الحالات التي وُجِّهت فيها الأموال الدولية إلى كيانات تعمل بشكلٍ مباشر أو غير مباشر لصالح الميليشيا.

أُنفقت مبالغ طائلة على مشاريع “التمكين المدني” و”المواطنة” و”بناء السلام”، بينما كانت هذه المشاريع تُنفذ عبر منظمات خاضعة لسلطة الحوثي أو متواطئة معه. وما بدا في الواجهة كعملٍ إنساني، كان في الحقيقة عملية إعادة إنتاج ناعمة للانقلاب، عبر ثلاثة مسارات أساسية:

1. إعادة صياغة الرواية اليمنية دوليًا: بحيث تُقدَّم الميليشيا كـ “طرف سياسي مسيطر” لا يمكن تجاوزه.

2. خلق مجتمع مدني موازٍ: من منظمات وواجهات حقوقية وإعلامية مرتبطة أو خاضعة لتوجيهات الحوثي.

3. إضعاف مؤسسات الشرعية: بحرمانها من التمويل، وتهميش دورها، واتهامها بالفساد لتبرير تجاوزها.

الوجه الخفي للمشاريع “المدنية”

بدأت بعد 2016 تظهر فجأة عشرات المنظمات ومراكز الأبحاث “المستقلة”، التي تتلقى تمويلات دولية بملايين الدولارات تحت عناوين “بناء السلام”، “المصالحة”، و”تمكين الشباب”. لكن مراجعة سجلاتها وأسماء إداراتها ومناطق عملها تكشف أنها نشأت وتعمل في بيئة حوثية صرفة، وأنها لا تُنفذ برامجها إلا بإشراف مباشر من عناصر تابعة للمجلس الحوثي للشؤون الإنسانية أو من جهاز الأمن والمخابرات التابع للميليشيا.

بهذا، لم تعد الأموال تُصرف للإغاثة، بل لصناعة سرديةٍ جديدة تُجمّل الميليشيا في الخارج وتُضعف خصومها في الداخل.

تحوّلت التقارير الحقوقية إلى أداة دبلوماسية للضغط على الشرعية، وتحوّلت الحملات الإعلامية إلى حملات تبييض ممنهجة لصورة الحوثي أمام المجتمع الدولي.

كيف تم إضعاف الشرعية عبر المال

في الوقت الذي كانت الحكومة الشرعية تكافح لتوفير رواتب موظفيها، كانت تلك الشبكات تتلقّى تمويلات بملايين الدولارات سنويًا. فأصبح للميليشيا ذراع مالية موازية للدولة، تمكّنها من شراء الولاءات، واستقطاب الكفاءات، وتمويل الحملات الإعلامية داخل اليمن وخارجه. كما تم تهميش المؤسسات الحكومية الشرعية في ملفات الصحة والتعليم والمرأة والحقوق، إذ فضّل المانحون التعامل مع منظمات “مدنية” غير حكومية، ما منح الميليشيا مساحة أوسع لتوسيع نفوذها.

بهذه الطريقة، استُخدمت المساعدات كوسيلة لتفكيك الشرعية بدل دعمها. وصار المجتمع الدولي يتعامل مع صنعاء وكأنها “حكومة أمر واقع” يجب التنسيق معها، مما أضعف مكانة الحكومة الشرعية سياسيًا وإدارياً.

بمرور الوقت، لم تعد المساعدات الإنسانية تُنقذ حياة اليمنيين بقدر ما تُنقذ الميليشيا من الانهيار الاقتصادي والسياسي. فالمواد الإغاثية تُباع في الأسواق، والمنح تُستخدم في الحملات الإعلامية، والمنظمات تُدار بعقلية أمنية، والمراكز البحثية تبرّر الانقلاب بمصطلحات “السلام الشامل”. وهكذا، تحوّل الحلم الإنساني إلى أداة تمويل للنفوذ الصفوي في اليمن، وصار المال الدولي جزءًا من بنية المشروع الإيراني عبر وكلائه الحوثيين.

ثانياً: مركز صنعاء.. رأس حربة النفوذ الناعم

من بين كل الواجهات التي أنشأتها أو تغلغلت فيها الميليشيا الانقلابية الحوثية المدعومة من إيران، يبرز مركز صنعاء للدراسات كأخطرها وأكثرها تأثيرًا. فهو ليس مجرد مركز بحثي أو مؤسسة فكرية، بل أداة متقدمة من أدوات الحرب الناعمة، صُمّمت بعناية لتخاطب العواصم الغربية بلغة العقل والبحث، بينما تمرّر في الخلفية رسائل تخدم مشروع الانقلاب وتطبع وجوده كأمر واقع في اليمن.

1. النشأة الغامضة والنمو المفاجئ

تأسس مركز صنعاء مع بداية الحرب تقريبًا، في مرحلة كانت فيها الميليشيا الحوثية قد أحكمت قبضتها على العاصمة.

لم يكن اسم المركز معروفًا في الوسط الأكاديمي أو البحثي قبل 2014، لكنه بعد الانقلاب مباشرة ظهر فجأة كمصدرٍ “خبير” بالشأن اليمني، يقدم تحليلات وتقارير باللغتين العربية والإنجليزية، وينال مساحة في وسائل الإعلام الدولية، واهتمامًا خاصًا من السفارات الغربية والمنظمات الأممية.

بين عامي 2016 و2019، قفز المركز من كيان محدود بموظفين معدودين إلى مؤسسة عابرة للحدود، تُنظم مؤتمرات مشتركة مع معاهد أوروبية، وتستقبل تمويلات من جهات مانحة دولية، وتُقدَّم كـ “المصدر الأكثر موضوعية عن اليمن”.

هذا الصعود السريع لم يكن عشوائيًا؛ بل كان نتيجة شبكة علاقات سياسية ومالية معقّدة مكّنته من السيطرة على مساحة السرد الدولية.

2. التغلغل في خطاب المانحين والسفارات

اعتمد المركز استراتيجية مزدوجة: من جهة، يتحدث بلغة البحث والتحليل، مستخدمًا مصطلحات مثل “الحوكمة”، “المواطنة”، و”الانتقال السياسي”. ومن جهة أخرى، يمرّر خطابًا خفيًا يُعيد صياغة الرواية اليمنية بما يخدم بقاء الميليشيا.

من خلال عشرات الندوات واللقاءات مع المسؤولين الأمميين والسفراء والباحثين الغربيين، عمل المركز على ترسيخ فكرة أن الحوثيين “سلطة أمر واقع” يجب التعايش معها، وأن أي محاولة لإقصائهم “غير واقعية” أو “ستزيد الصراع”.

هذا الخطاب، الذي يبدو عقلانيًا للوهلة الأولى، هو في حقيقته إعادة تلميع للانقلاب بغطاء بحثي، يُحوّل الجريمة إلى “حالة سياسية”، والانقلاب إلى “تحدٍ إداري”، والميليشيا إلى “مكوّن وطني” يجب دمجه في الحل.

3. صناعة صورة الحوثي المقبول

يعمل المركز منذ تأسيسه على تطبيع صورة الميليشيا في الوعي الدولي عبر ثلاث خطوات أساسية:

أ. تحييد المصطلحات

يتجنب في تقاريره استخدام كلمات مثل انقلاب، إرهاب، تمرد، ميليشيا إيرانية، ويستبدلها بعبارات مثل “جماعة أنصار الله” أو “السلطة في صنعاء” أو “الطرف الشمالي”. وهذا التغيير اللغوي لم يكن تفصيلًا بسيطًا، بل تحويلًا منهجيًا للخطاب السياسي الدولي من الإدانة إلى القبول.

ب. إخفاء التبعية لإيران

نادراً ما يتحدث المركز عن دور الحرس الثوري الإيراني أو حزب الله اللبناني في دعم الحوثيين، ويُقلّل من شأن البعد الطائفي والإقليمي للمشروع، مركّزًا بدلاً من ذلك على الانقسامات داخل الشرعية. بهذا، يخفف الضغط الدولي على الميليشيا ويحوّل الأنظار نحو خصومها.

ج. تضخيم أخطاء خصوم الحوثي

يُكثر المركز من نشر تقارير نقدية عن المجلس الانتقالي الجنوبي، أو حزب الإصلاح، أو الحكومة المعترف بها دوليًا، بينما يتجنب انتقاد الميليشيا إلا في قضايا شكلية، مثل “الضرائب”، أو “القيود الإعلامية”، دون المساس بجوهر سلطتها.

وهكذا، يصنع توازنًا زائفًا يُظهر الحوثي كطرف منضبط مقابل خصوم فوضويين.

4. شبكة العلاقات والدعم

رغم أن المركز يقدّم نفسه كمؤسسة مستقلة، إلا أنه يرتبط تمويليًا بعشرات الجهات الغربية والمنظمات التي تعمل في “بناء السلام”. من أبرزها: مبادرات أوروبية وسويدية وهولندية، وبرامج تابعة للأمم المتحدة، إضافةً إلى مؤسسات مانحة تموّل مشاريع “الحوار والمصالحة”. لكن اللافت أن جميع هذه المشاريع تُدار تحت سقف واحد: الاعتراف بالحوثي كأمر واقع.

تُظهر السجلات أن المركز يُبرِز اسمه في مؤتمرات أوروبية عن “مستقبل اليمن”، ويُستضاف ممثلوه كمحللين “مستقلين” في ندوات الأمم المتحدة والبنك الدولي، مما يمنحه قدرة غير مسبوقة على التأثير في القرارات الدولية المتعلقة باليمن.

5. السيطرة على السرد الإعلامي

في السنوات الأخيرة، أصبح المركز مرجعًا أساسيًا لمعظم وسائل الإعلام الدولية في تغطية أخبار اليمن.

كلما أرادت وكالة غربية فهم “المشهد اليمني”، تتواصل مع باحثٍ من مركز صنعاء. وهكذا، أصبح الخطاب الحوثي يُقدَّم عبر صوتٍ ناعمٍ يتحدث بالإنجليزية بطلاقة، ويستخدم لغة الأكاديميين والدبلوماسيين.

وبفضل هذا النفوذ، استطاع المركز إعادة تشكيل الصورة الذهنية عن الحرب في الغرب: فلم تعد حربًا بين انقلاب وجمهورية، بل بين “أطراف يمنية متنازعة”. وبذلك، تم تذويب جريمة الانقلاب في بحرٍ من المصطلحات المحايدة، وجرى تبييض الميليشيا تحت شعار “التحليل الموضوعي”.

6. التغلغل في الأوساط المحلية

لم يكتفِ المركز بالنفوذ الدولي، بل بنى شبكة علاقات داخلية تضم صحفيين، باحثين، ومنظمات شريكة في صنعاء وعدن وتعز. من خلال ورش العمل والدورات الممولة، قام باستقطاب عشرات الشباب والإعلاميين، مقدِّمًا نفسه كفرصة “للتدريب المهني والتطوير البحثي”. لكن هدف هذه الدورات لم يكن تنمية القدرات بقدر ما كان إعادة تشكيل الخطاب الداخلي ليوازي الخطاب الخارجي ، خطابٌ يدعو إلى “الواقعية السياسية”، و”إدماج الحوثي”، و”التعايش مع سلطته”، أي تجريد المقاومة من مشروعها.

7. الدور المزدوج في الخارج

في المحافل الدولية، يظهر المركز كوسيط أو “جسر” بين الأطراف. يقدّم تقارير دورية لمنظمات الأمم المتحدة عن “الوضع في اليمن”، لكنه يختار مصطلحاته بعناية بحيث لا تُدين الميليشيا صراحة. وفي الوقت ذاته، يقدّم نفسه للسفارات الغربية كمصدر “موثوق” يزوّدها بتحليلات ميدانية، مما يتيح له التحكم في المعلومات المتدفقة من اليمن نحو دوائر القرار الدولية.

لقد تحوّل فعلاً إلى “المخبر الناعم” الذي يُعيد صياغة الوقائع لصالح مشروع سياسي محدد، بينما يقدّم نفسه كمنارة للبحث الحر.

8. النتائج: من البحث إلى التثبيت السياسي

النتيجة النهائية هي أن مركز صنعاء أصبح الناطق غير المعلن باسم سلطة ميليشيا الحوثي في الساحة الدولية.

بفضل لغته الهادئة وواجهته من اصحاب ربطات العنق ، استطاع أن يمنح الميليشيا الحوثية شرعية فكرية كانت تفتقر إليها.

في كل مؤتمر أو تقرير أممي يُذكر اسم “السلطة في صنعاء” أو “انصار الله” ، هناك بصمة فكرية أو تحليلية مصدرها هذا المركز. لقد أدى الدور الذي لا تستطيع وزارة إعلام الحوثي القيام به علنًا، وهو بناء القبول الدولي التدريجي بالانقلاب.

إن مركز صنعاء ليس مجرد مؤسسة بحثية، بل أداة متقدمة في مشروع النفوذ الصفوي داخل اليمن. يقوم بالدور الذي تؤديه فيلق القدس عبر السلاح، لكن بلغة “السياسات العامة”. إنه الياقات البيضاء للحرب الحوثية — يلبس بدلة دبلوماسية، ويتحدث باسم “المعرفة”، لكنه في جوهره جزء من منظومة الخداع الكبرى التي تشرعن الانقلاب وتفكك خصومه.

فهو، باختصار، وزارة الخارجية الفكرية للميليشيا الحوثية، تمارس الحرب نفسها، ولكن بأدواتٍ ناعمة، وبكلماتٍ محسوبة، وبابتسامةٍ دبلوماسية.

ثالثاً: لعبة التناقضات.. كيف تفكك الميليشيا الشرعية من الداخل

في كواليس الحرب اليمنية، حيث البنادق تصمت حيناً وتعلو أصوات “الحياد” و”السلام” حيناً آخر، كانت الميليشيا الحوثية المدعومة من إيران تُدير معركة مختلفة تماماً. معركة لا يُطلق فيها الرصاص، بل تُكتب فيها التقارير وتُعقد فيها الندوات. وفي هذه الجبهة الخفية، ظهرت مراكز ومنظمات تُقدَّم على أنها مستقلة ومدنية، لكنها في الحقيقة تعمل كـ مهندسي فتنة سياسية محترفين، يعرفون أين يضربون ومتى يبتسمون.

1. استهداف المكوّن الأقوى واستدراج خصومه

منذ البداية، لم تترك هذه المراكز شيئاً للصدفة. كانت تراقب المشهد اليمني بدقة عيون استخباراتية، تبحث عن المكوّن الأقوى في اللحظة الراهنة: حزب، مجلس، تيار، أو حتى شخصية سياسية. بمجرد أن تراه صاعداً، تبدأ حملة ناعمة ضده — تقارير “تحليلية”، أوراق “سياسات”، أو مقالات رأي تتحدث عن “نزعات الهيمنة” و”التصلب في المواقف” و”خطر التطرف”.

وحين تزرع بذرة الشك، تنتقل بخطوات محسوبة إلى خصومه. تفتح معهم قنوات اتصال خلفية، وتقدّم نفسها كـ “شريك وطني” و”صوت معتدل” له نفوذ في العواصم الغربية، قادر على تحسين صورتهم لدى المانحين والدبلوماسيين.

تطلب منهم الدعم، وربما التمويل، وتعدهم بتمثيل صوتهم في المؤتمرات المغلقة.

النتيجة كانت دائماً واحدة: يتناحر المكوّنان الوطنيان، ويتصدع الصف، ويخرج المركز من المشهد أكثر نفوذاً وتمويلاً، فيما الشرعية تزداد تمزقاً وضعفاً. كانت تلك هي الضربة الأولى في لعبة التناقضات — ضرب الطرف الأقوى من خلال تحفيز غريزة الخوف عند خصومه.

2. الطعن في الظهر والتحول المفاجئ

لكن اللعبة لا تتوقف عند هذا الحد. فما إن يمدّ أحد المكوّنات يده للمركز ويعتبره حليفاً، حتى يبدأ المركز بالاستعداد للطعنة التالية.

بعد أن يجمع المعلومات، ويستفيد من الدعم، ويكسب الثقة، ينقلب عليه بتقرير دولي جديد يتهمه بالتطرف أو الفساد أو خرق حقوق الإنسان.

تتكرر هذه الخدعة منذ 2016، والنتيجة دائماً واحدة: طرفٌ جديد يخرج من اللعبة مصدوماً، وآخر يُستدرج بحجة “الواقعية السياسية”. وفي كل مرة، يبقى المركز في موقع الناجي، المتحدث باسم “الاعتدال”، بينما تُرك الشرعية منهكة، منقسمة، ومجردة من الثقة المتبادلة.

لم يكن الولاء عند هذه المراكز للوطن، ولا للشرعية، بل لمشروع واحد فقط: مشروع تبييض الميليشيا الحوثية وإضعاف خصومها حتى آخر نفس.

3. تبديل الحلفاء وإبقاء الفوضى مشتعلة

حين تنتهي صلاحية أحد الحلفاء، تبدأ اللعبة من جديد. تُغلق صفحة الإصلاح، وتُفتح صفحة الانتقالي. يُهاجم المؤتمر، ثم يُستدرج بعد شهور باعتباره “صوتاً جمهورياً يجب إحياؤه”. كل شيء متبدّل، إلا الهدف الثابت: إبقاء القوى الوطنية في دوامةٍ من الشكوك المتبادلة، لا يثق أحد فيها بأحد. وبينما تنشغل هذه الأطراف بتبادل الاتهامات، تزداد الميليشيا الحوثية استقرارًا وتوسعًا، وتُحكم سيطرتها على الأرض والعقول معًا. إنه تفكيك بارد ومدروس، لا تُحقّقه المدافع، بل تكتبه الأقلام المدفوعة.

رابعاً: شبكة النفوذ الناعم — عدة واجهات بوجه واحد

تكشف تحقيقات فرودويكي أن ما يبدو تعدداً في الأسماء ليس إلا تنويعًا في الأدوار ضمن مشروع واحد متكامل:

1. مركز صنعاء للدراسات: الذراع السياسية والفكرية، تصوغ الخطاب وتخاطب العواصم، وتضع القوالب التي تُعيد تعريف اليمن أمام العالم.

2. منظمة مواطنة لحقوق الإنسان: الذراع الحقوقية التي تغطي الجرائم بشعار “الحياد”، فتُساوي بين القاتل والضحية وتمنح الحوثي غطاءً قانونياً.

3. شركة ديب روت للاستشارات (DeepRoot): الذراع التنفيذية التي تدير العلاقات والتمويلات والمشاريع الميدانية بواجهة ترتدي ربطات العنق.

4. منظمة رنين اليمن: الذراع الإعلامية والشبابية، تصنع القصص وتزرع المفاهيم، وتُعيد تقديم الحرب على أنها “خلاف داخلي” لا “انقلاب دموي”.

هذه الواجهات تعمل بتناغمٍ كامل  - واحدة تُشرعن، وأخرى تُجمّل، وثالثة تُنفّذ، ورابعة تُروّج -

لكن الهدف النهائي واحد: تفكيك الصف الوطني وتثبيت الانقلاب كواقع لا يمكن تغييره.

منذ اليوم الأول، لم تعتمد الميليشيا فقط على السلاح، بل على ما هو أخطر: الكلمة المموّلة. غيّرت المصطلحات، وحرّفت المفاهيم، وأعادت تعريف الوطنية على طريقتها.

• استبدلت “الانقلاب” بـ “سلطة الأمر الواقع”، و”الميليشيا” بـ “جماعة سياسية”.

• فرضت خطاب “الحياد” في الإعلام والحقوق، حتى بدا وكأن الضحية والجلاد سواء.

• زرعت محللين “مستقلين” في وسائل الإعلام الدولية لتمرير روايتها باسم “الخبرة”.

• استغلت التمويلات والمنح الدولية لتأسيس نفوذٍ ناعمٍ يُموِّل شبكتها بدل أن يُعين الشعب.

• وروّجت لفكرة “السلام بأي ثمن”، حتى صار الدفاع عن الدولة يُتهم بالتطرف، والمطالبة بالجمهورية تُصوّر كعداء للسلام.

بهذه الأدوات، صنعت الميليشيا سلاحًا لا يُرى بالعين، لكنه يُخضع الشعوب أكثر مما يفعل الرصاص.

الميليشيا الحوثية تقتل في الجبهات، نعم، لكنها تقتل الوعي في القاعات. تغزو المدارس والجامعات والمنظمات بخطابٍ ناعمٍ عن “الهوية” و”السلام”، لتصنع جيلًا يقبل الاحتلال الإيراني بوجهٍ محليّ. تُدرّس خطابها تحت مسمى الثقافة، وتبثّ روايتها عبر قنوات “مدنية”، حتى صار بعض المثقفين يتحدثون بلغتها دون أن يدركوا أنهم يروّجون لعدوّهم.

إنها حرب بلا دخان، لكنها تترك رمادًا في العقول. حرب تُعيد تشكيل اليمني ليبرر استعباده، وتحوّل المقاومة إلى “تعنت”، والانقلاب إلى “تكيّف مع الواقع”.

خامساً : نداء إلى المكونات الشرعية

يا مكوّنات الشرعية كافة ،، إن الخطر الذي يواجهكم لا يقف عند حدود الجبهات، بل يسكن في المكاتب التي تعمل باسم “السلام”.

الخصم الحقيقي ليس بينكم، بل في هذه المراكز التي تتغذى من خلافاتكم وتستنزفكم واحدًا تلو الآخر.

لا تمنحوها غطاءً، ولا تمويلًا، ولا اعترافًا. افتحوا ملفاتها، وراجعوا تقاريرها، وتتبعوا مصادر تمويلها.

الصمت أمامها مشاركة في الجريمة، والتعاون معها خيانة لدماء الشهداء وللجمهورية نفسها.

1. تجريم «التوازن الكاذب» — واجب قانوني وأخلاقي لمواجهة غزو الرواية

لم يعد صمت المؤسسات أمام مقاربةٍ تساوي بين الضحية والجلاد خيارًا مقبولاً؛ إنه تواطؤٌ يستنزف الوطن ببطء. لذلك يجب أن تتحول كلمة «توازن» المزيفة إلى مفردةٍ مُدانةٍ قانونيًا.

تخيلوا قانونًا واضحًا يُلزم كل جهة تعمل في إطارٍ رسمي — حكومية كانت أم ممولة من الخارج — بأن تعتمد معايير مهنية صارمة في لغة تقاريرها وتحليلاتها. معيارٌ يفرّق بين مرتكب انقلابٍ وإدارةٍ حكومية شرعية، بين من يمارس القتل والنهب ومن يدافع عن سيادة الدولة. هذا القانون يضع حدًّا لأساليب التشويه التي تُموّلها أجندات خارجية وتُقدّم للميليشيا الانقلابية غطاءً دبلوماسيًا.

آلية العمل هنا بسيطة ولكنها حاسمة: يُشكّل البرلمان أو هيئة قضائية رقابية لجنة متخصصة تضمّ قضاة، خبراء لغويين، ممثلين عن نقابات الصحفيين، ومؤسسات حقوقية وطنية مستقلة. تُعدّ اللجنة مدونة سلوك لغوية تحدّد لغةَ التقارير المقبولة والمعايير التحليلية الملزِمة. تُطبّق المدونة على كل الجهات التي تطلب تمويلًا رسميًا أو تعمل بتفويض حكومي؛ وتُتيح آليات قانونية للطعن في أي تقرير يمارس «التوازن الكاذب»، بدءاً من غرامات مالية، وحتى ملاحقات قضائية ضد من يصرّ على تبرير الانقلاب باسم الحياد.

هذه ليست حماية للحق: حماية الحق في تسمية الجاني، وحماية الحق في حفظ ذاكرة وطنٍ لا يُعاد كتابتها بأقلامٍ مأجورة. عبر هذه الآلية، نحصن المجتمع من خطاب يشرعن الاحتلال الصفوي تحت ستار الحياد، ونمنع أن تتحوّل اللغة إلى سلاحٍ يُغتال به مستقبلُنا.

2. إطلاق حملات توعية وطنية — سلاح مدني يضاهي بندقية العدو

إذا كانت القوانين سداً أمام التشويه، فالتوعية هي الدروع التي تحمي العقول. الحرب الناعمة لا تُحسم بالقوانين وحدها؛ بل بتثقيف شعبٍ يقاوم الاختراق الثقافي والإعلامي. لذا يجب إطلاق موجةٍ وطنية شاملة تُنفّذها المدارس والجامعات والإعلام ومنظمات المجتمع المدني، وتصل إلى كل قرية وحارة.

تتصوروا برامج قصيرة في مناهج المدارس تشرح مبادئ الحرب الناعمة بأسلوب مبسّط: كيف تُستبدل الكلمات، كيف تُستثمر المنح، وكيف يُصنع التوازن الزائف. تخيلوا ورشًا في الجامعات تُدرّب الطلبة على التحقق من المصادر، ودوائر تدريب للصحفيين تُعلّمهم قراءة كشوف التمويل والمسارات المالية، وحلقات إذاعية وتلفزيونية تُعرّي آليات التضليل أمام الجمهور.

المشروع يُدار عبر شراكة بين وزارة التعليم ووزارة الإعلام، نقابات المهنة، و«مراصد التضليل الوطني» لاعداد مواد معيارية يمكن استخدامها في المدارس ووسائل الإعلام. أدوات التنفيذ متعددة: من مناهج قصيرة ومقررات إلكترونية، إلى فيديوهات قصيرة تبثّ على منصات التواصل، ومختبرات تدريب للمدرّبين المحليين الذين ينشرون الوعي في المحافظات. تُرفق هذه البرامج بدورات للقيادات المحلية ومسؤولَي المدارس ليصبحوا حُماةً أوليين للمنهج الوطني.

الهدف هنا بناء مناعة ثقافية: جيلٌ يقرأ مصادره، يتحقق قبل أن يصدّق، ويفرق بين العمل الحقوقي الصادق والواجهة المموّلة. نريد مواطنين لا تُخدعهم اللغة الممسوكة بأيدي أجنداتٍ خارجية، ولا يُغريهم السرد الذي يقدّم الجلاد كطرفٍ «مساوٍ» للضحايا.

خاتمة تحذيرية

القانون والتوعية وجهان لعملةٍ واحدة: الأول يقطع على الأجندات الغربية المموِّلة طريق التبرير القانوني، والثاني يحرّك العقل الوطني ليقاوم الرواية المزيفة. إن جمعهما يعني إغلاقِ بابٍ واسعٍ كان يُفتح يوميًا بأموالٍ ومنابرٍ تُعيد كتابة الحقيقة.

إذا لم نبدأ الآن في سنّ القواعد وإطلاق برامج التوعية، فإن الفضاء العام سيُعاد تشكيله تدريجيًا باسم «الحياد» حتى يفقد الوطنُ مقدرته على التفريق بين من يدافع عنه ومن يسعى لاحتلاله بصيغةٍ محلية. الزمن ليس في صالحنا ، فالتأخير يعني مزيدًا من القبول المجتمعي بالانقلاب وشرعنة لامعنى لها.

"من يشتري الرواية الحوثية يشارك في الانقلاب"

الخطر اليوم لا يأتي من القناص الحوثي وحده، بل من الباحث الذي يكتب لصالحه باسم “الحياد”،

ولا من الصاروخ الإيراني فحسب، بل من التقرير المموَّل الذي يُعيد رسم الحقيقة ليُبرّئ القاتل ويُجرّم الضحية.

من يمول الكلمة المضللة لا يقل خطراً عن من يطلق الرصاصة. ومن يصمت على هذه الحرب الناعمة، يشارك — ولو بصمته — في ترسيخ الاحتلال الصفوي لليمن تحت غطاء “المدنية” و“السلام”.


* منصة فرودويكي