الوعل الجريح

كلما التهبت الأوضاع في اليمن واشتدت العواصف غيمت الأجواء بالحزن والكآبة والإحباط، فإن خيطاً رفيعاً من نور يلوح في الأفق يبدد الظلمة، فهل يعقل أن يكون بعد هذا الجنون عقل، وبعد كل هذا الشر خير، وبعد كل هذه الضوضاء هدوء، وبعد هذا التيه من رؤية؟
 
 تقول لنا الجغرافيا : في جبال اليمن الشاهقة تعتصم الوعول - جمع وعل- بالحيود العوالي هرباً من المتخلفين الذين يحتفلون بقتل الوعول، يجرح وعل فتزيد سرعته، وفي ظلام الليل ينام على ظهره ويضع قرونه الخاوية على الأرض لتكون محور ارتكاز يتسرب من خلالها أي صوت أو وقع الخطى، هذا الوعل برغم كل الظروف السيئة إلا أنه يتكيف مع هذه الأرض، منذ الأزل يهاجر بعيداً عن الأودية والسهول، وقت المحن ويعود يختبئ في الكهوف، ويتسلق عوالي الجبال والصخور الحادة، هذه أرضه ولا يمكن أن يتركها للأبد.
 
تقول الأسطورة أن شعب اليمن القديم كان يقدس الوعل فهو وجه الخير والخصب والإخصاب، وهو أيضا رمز عثتر، وعثتر، هي تلك البشرية، التي تحولت إلى أسطورة في معظم الحضارات القديمة، وهي إلهة الحب والخصب والوفاء، وزوجة إله الحرب "تعوز" في اليمن، و"تموز" في العراق، وهو الإله الذي خرج في رحالات الصيد وقتل الوحوش البرية، وتحدى الموت مراراً وعاد لقومه دوما بالخير، قدسهما الناس ورأوا فيهما الحب والانتصار في الحرب والخير والخصب والاستقرار، وعندما انتقلوا إلى بلاد الرافدين اسموها "عشتار" واسموه "تموز" ربما لاختلاف اللكنات، ما يهمنا هنا هو الوعل رمز الخصب الذي بقى خالداً في النقوش والذاكرة، وله مكانة عند الشعب. وفي فترات الضلال والجهل تم صيده والرقص عند ذبحه في طقوس بدائية لا تدل على فهم رمزية الخير على هذه الأرض.
 
في زمن الضواري عاش الوعل وانتهت الحيوانات المفترسة من الديناصور إلى القط البري، الخير لا ينتهي ووجه الخير في رمز الوعل مازال باقياً، زينت به أركان المنازل في مشارق ومغارب اليمن، وتكاد المعالم أن تمحى، لكن الذاكرة تستدعي الرموز حيناً من الدهر، وهذا هو عصر التيه قد أطل، ولذا فاستدعاء الرمز الجامع للخير "قرين عثتر" و"عثتر" الإلهة قد أجمع الناس على حبها وأتمروا بأمرها حين الشدة والصبر حتى عودة الإله "تعوز" الذي تأخر في رحلة صيد الوحوش،  فعم الرخاء حين احتكموا لها.
 
الأساطير تحتاج إلى المزيد من التأمل فهي خلاقة والنظر إليها بعين الحكمة يمنع تسطيحها على أية حال، يحدثنا الوعل الجريح أن بعث الأمة من تحت الركام أمر وارد باتفاق الشرق والغرب، كل حضارة أوشكت على الإندثار تترك بذورها في عمق الأرض لتنمو بعد ذهاب الأعداء، وكل حضارة تلد أخرى، تذهب دولة وتولد من رحم الهوية دولة أخرى، الراية لا تسقط، فالوعل يحملها معه في أعالي الشواهق.
 
في اليمن كثر أعداء الدولة بشكل مفزع، يتسربون من كل زاوية، يجدون من يمول خناجرهم لتفتيت الروح والهوية، عندما عجزت بريطانيا عن صد المقاومة اليمنية قبل منتصف القرن الماضي قررت الشمطاء الرحيل، كان عبد الناصر يدرك أن النصر والتغيير قد آن أوانه، فقاد موجة التحرير في المنطقة، لذا انزوت بريطانيا خلف البحار، لكنها أيضا تركت سمها في بعض البذور، كلما تشاهدونه اليوم من تسميات معادية لليمن والهوية في الشمال والجنوب هو من زراعة العجوز الشمطاء.
 
 "هذه النتوءات زائلة" يقول الوعل الجريح، والذي يستدل على ذلك بقول أدوين رايشاور إن سر نهضة اليابان يرتكز على شئين اثنين، هما: "إرادة الانتقام من التاريخ، وبناء الإنسان" عندما هزمت اليابان في 1945 وجدت إرادة جمعت الشعب وغيرت مسار البلد، تركت الحرب القذرة واتجهت نحو الصناعة، وانتقمت من تاريخ الحروب، أعيد توجيه اليابان نحو الصناعة، والصناعة قادت إلى الاستقرار، وبذلك عادت اليابان من خلال الصناعة والتجارة كقوة صناعية واقتصادية منافسة بشراسة في الأسواق العالمية، انتقم اليابانيون من التاريخ ومن الهزائم وتصدروا مجالات الانتصار بشكل أوسع، عندما أعادوا بناء الإنسان المنتج، الذي خلف الإنسان المحارب بالأسلحة التقليدية.
 
عندما شاهدت الحشود سابقاً تحاصر العاصمة اليمنية صنعاء من قطعان القبائل الهمجية، كنت أدرك أن الخلل في بناء الإنسان، فمن يقف ضد دولته غير الإنسان الذي تُرك للجهل والخرافة والحقد وثقافة الفيد والمذهب الطائفي، وعادات القبيلة السيئة  كقطع الطرق والسلب والنهب، والتي أعيد تشكيل القبيلة اليمنية بها منذ قدوم الرسي، والذي غير المعادلة الاجتماعية في اليمن، ومنها أعاد تقسيم المجتمع إلى سادة يحكمون وهم من نقائل السلالة المقدسة -كما يدعون - وعبيد مأجورين يستخدمهم بالسخرة في الحروب وهم أهل اليمن.
 
 القبيلة اليمنية اليوم بحاجة إلى إعادة تأهيل وتهيئة وإعادة تشكيل وتربية وإعادة ترتيب سلم قيمها، والتي تبدأ من الهوية والولاء للوطن وتنتهي بالدفاع عن الدولة في مختلف الظروف، وهذا يحتاج إلى برامج ثقافية وتعليمية غير عادية، القبيلة ليست في صنعاء وحول صنعاء فقط، ولكنها في كل أرجاء اليمن، أنا لا أتحدث عن جزء وجزء لا، ما يجري من حشد للناس إلى عدن يعيد إلى الأذهان ما جرى في صنعاء، مازالت القبيلة المتخلفة ترسل القرويين إلى عدن من الضالع ويافع وقرى مثلث الدوم، لم تسع دولتي اليمن في الشمال والجنوب إلى تمدين القبيلة، لم تكونا تملكان مشروعاً وطنياً يسهل لهما ذلك، وبعد الوحدة ظلت القبيلة هنا وهناك متخلفة بعيدة عن التغيير وعن إرادة التغيير.
 
كما أن تغيير الأنظمة لا يعني بالضرورة تغييراً في الحالة الثقافية للمجتمع، الإرادة السياسية غير المسبوقة بإرادة ثقافية قائمة على سلسلة من القيم المرتبطة بالهوية والذات والدولة اليمنية تفضي دوماً إلى المجهول.
 
 الاستعمار والطائفية في بدايات القرن الماضي لم يصنعا نظاماً تعليمياً يسمح بتحريك الأمة اليمنية نحو أهدافها، ونظامي الشمال والجنوب خلفاهما لم يحققا حتى الشعارات التي رفعت، والدولة الواحدة ظلت الطريق وقبائل حاربت قبائل.
 
يقول الوعل الجريح: إن انتقام التاريخ يجب أن يتلائم مع انتقام الجغرافيا، وأن يتم التعامل وفقاً لقوانين تمكن صانع السياسية بالخروج بأقل الخسائر وأعظم المكاسب" يذكرنا الوعل الجريح بما جرى في تركيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى 1918، عندما وضعت خارطتها على الطاولة ليتقاسم جغرافيتها المنتصرون في الحرب، كيف استغل أتاتورك النزاع الدولي لصالح تثبيت الدولة التركية، وكيف خرج بأعظم مكسب وهو تركيا الحديثة، وبأقل خسائر شكلية ارضت القوى الدولية وخدرتها حينٌ من الدهر.
 
يستشهد الوعل الجريح بقول كابلان صاحب كتاب انتقام الجغرافيا: " إن أوقات الاضطراب العالمي، التي تختبر افتراضاتنا حول ديمومة الخريطة السياسية، تؤدي إلى نهضة في التفكير حول الجغرافيا، ذلك لأن الجغرافيا هي الأساس الحقيقي للاستراتيجية والجغرافيا السياسية. والاستراتيجية بحسب "نابليون" هي فن استخدام الزمان والمكان بطريقة عسكرية ودبلوماسية، أما الجغرافيا السياسية فتمثل دراسة البيئة الخارجية التي تواجهها كل دولة عند تحديد استراتيجيتها الخاصة، ولذا فإن معرفة الخصائص الجغرافية لأمة ما تعني معرفة سياستها الخارجية".
 
بين انتقام التاريخ وانتقام الجغرافيا يوجد الحل للمعضلة اليمنية، إذا وجدت الدولة التي تستفيد من المتغيرات العالمية، ومن المعطيات المحلية والإرادة المجتمعية النيرة، سيتم تفويت الفرص على من يطمعون بالجغرافيا اليمنية اليوم، إذا وثق الناس بالقيادة، وعوامل الثقة موجودة وإنما تحتاج إلى مزيد من التفعيل، والفرص المتاحة للاستقرار في اليمن تولد من رحم الصراع والتشظي، وظهور الأطماع المحلية كانعكاس للأطماع الخارجية.
 
في 2012 كتبت مقالاً نشرته في يومية الجمهورية، قلت فيه أمام الرئيس هادي تجربتان تقودان البلد إلى النهوض، وهما؛ تجربة تركيا "أتاتورك" صانع تركيا الحديثة، وتجربة كوريا الجنوبية، "بارك تشونج هي" صانع "معجزة نهر الهان" وقلت فيه إن تجربة أتاتورك هي الأقرب لليمن من الناحية الموضوعية لوجود التشابه من حيث الجغرافية والموقع الهام، وأضيف هنا وجود تشابه في عدد الطامحين لبيع البلد من أبنائه لأعدائه المتربصين، ووجود أطماع خارجية وإقليمية تريد تقسيم البلد.
 
فالعصابات حينما تحكم، أو عندما يحكم العكفة المتخلفين، وعندما تحكم الجماعات الطائفية، وعندما يحكم المغفلين الذين يستوردون الأنظمة بمشكلاتها ليحكموا بها بلدانهم دون مراعاة الجوانب الإنسانية والدينية والثقافية والاجتماعية والقدرة الاقتصادية والتعليمية، كلما يفعلونه جميعاً هو القضاء على الولاء للوطن، وعندما تغيب الأحزاب الوطنية الكبرى ذات المشروع الحضاري والمنتمية للهوية والوطن والشعب والمستقبل المتخلصة من الأيدلوجيا، فإن فوضى المشاريع الصغيرة تعم البلدان، وهذا هو حال اليمن الذي لم يتعاف من انقلاب الطائفة في الشمال، فإذا بانقلاب القرية في الجنوب يأتي متجاوبا مع سابقه.  
 
والسؤال الذي يطرح نفسه ويطرحه الكثير من الناس في الظروف السيئة والانقسامات والحروب ماذا يفعل المواطن العادي؟ الإجابة كما يقول عنها الوعل الجريح: يلوذ بوطنه وبهويته وبجذوره على هذه الأرض، قبل أن تقذفه الفوضى وتقتلعه من جذوره وترميه خارج الحدود.
 
كل هذه الفوضى التي نعيشها وعاشتها الأجيال قبلنا أبعدتنا عن هويتنا اليمنية، علينا العودة إلى جذورنا الأصلية، بغير الهوية اليمنية والقومية الوطنية سيضل هذا الشعب جسد بلا روح، وكلمة بلا معنى، لا أفق يحتويه، ولا نور يهديه، ولا دليل يسترشد به في خضم هذه العتمة.