مقطع راهن في الحرب اليمنية
أمام ما تواجهه في اليمن مدينة مأرب من تهديد عسكري، من الحوثيين، لم يكن هناك من خيار أمام التحالف العربي (السعودية)، والحكومة اليمنية المعترف بها دوليا، سوى البحث عن وسائل ضغط للحدّ من هذا التهديد، غير أن معظم جبهات القتال المشتعلة منذ ست سنوات لم تعد مثالية لهذا الضغط؛ نتيجة الآثار التي أحدثتها اتفاقيات استوكهولم المبرمة بين الحكومة والحوثيين عام 2018، واتفاق الرياض لعام 2019، المبرم بين الحكومة والمجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي المدعوم من الإمارات.
وقد كان من أنسب الخيارات الميدانية المتاحة إثارة الجبهات الخاملة في محافظة البيضاء، جنوبي مأرب، ونقل عملياتها من الأوضاع الدفاعية إلى الهجومية، لكن الحكومة والتحالف يدركان أنهما أمام عائقين: تحفُّظ الولايات المتحدة على طبيعة المواجهة وأطراف الجهات المناوئة للحوثيين. وخطر المجلس الانتقالي الجنوبي الذي ينازع الحكومة سيطرتها على المناطق المحرّرة، في المحافظات الجنوبية والشرقية؛ حيث يتربص اللحظة التي يحتدم فيها القتال بين الحكومة والحوثيين في البيضاء، ليبادر إلى السيطرة على محافظتي شبوة وأبين.
من ناحية العائق الأول، كانت الولايات المتحدة الأميركية تنظر إلى محافظة البيضاء، بوصفها معاقل وملاذات آمنة لمقاتلي تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش)، لكنّ هذه النظرة تراجعت إلى حدٍّ ما، ولا أدلَّ على ذلك من إعلان واشنطن استئناف التعامل والتعاون مع الجيش اليمني في الحكومة المعترف بها دوليا، في مجالات مكافحة الإرهاب، والجريمة المنظّمة عبر الوطنية، وحماية الملاحة البحرية، من خلال بناء قدرات الجيش وخفر السواحل. وذلك ما أُفصح عنه في أثناء لقاء قائد القوات البحرية للقيادة الوسطى الأميركية بنائب الرئيس اليمني، الفريق علي محسن الأحمر، في مقر إقامته المؤقت بالرياض، قبل يومين من استئناف المواجهات المسلحة بين الحكومة والحوثيين في مديريتي الزاهر والصومعة في محافظة البيضاء.
تمثل محافظة البيضاء القاسم الاستراتيجي المشترك بين مختلف أطراف الصراع، نظرا إلى موقعها المتوسط بين مناطق نفوذ وسيطرة قواتها
ومن ناحية العائق الثاني، شرعت الحكومة، قُبيل استئناف القتال في البيضاء، في تعزيز موقفها الأمني والعسكري بمديرية لودر، في محافظة أبين، وتقع على التماسّ المباشر مع الحوثيين، عبر مديرية مكيراس، بمحافظة البيضاء؛ حيث حاول المجلس الانتقالي الجنوبي التمركز الأمني فيها، استباقا لأي مواجهاتٍ بين الحكومة والحوثيين، لما قد يسفر عنها من اختلالات تخدم خطواته الانفصالية، وتجعل من تطلعه إلى السيطرة على محافظتي شبوة وأبين أيسر من أي وقت مضى.
في كل الأحوال، تمثل محافظة البيضاء القاسم الاستراتيجي المشترك بين مختلف أطراف الصراع، نظرا إلى موقعها المتوسط بين مناطق نفوذ وسيطرة قواتها، ووقوع حدودها على أكثر من نقطة تماسّ مباشر وغير مباشر بين هذه الأطراف، لكن ما أحرزته الحكومة من تقدّم عسكري في مديريتي الزاهر والصومعة، ومحاولة الاقتراب من مدينة البيضاء (المركز الإداري للمحافظة)، يمثل دلالةً واضحةً على أن معركة البيضاء تتجاوز مسألة تخفيف ضغط الحوثيين على مأرب، إلى غاية أوسع، وهي التقرّب إلى صنعاء، عبر جبهةٍ استراتيجية جديدة لم تشهد أي مواجهاتٍ سابقة، وهي محافظة ذمار التي تمثل نقطة الفصل والوصل بين صنعاء وما دونها من المناطق المهمة، وسط البلاد وجنوبيها.
قد يبدو هذا التصوّر مفرِطا في التفاؤل، لكن التحولات الراهنة يمكن أن تقود إلى ذلك، وما دعم طائرات التحالف (طائرات سعودية)، العمليات البرّية لقوات العمالقة والمقاومة الشعبية في البيضاء، إلا اعتراف بأن القيادة والسيطرة خاضعة للتحالف العربي، وأن ما يثيره الحوثيون بشأن وقوف القاعدة و"داعش" وراء ذلك، لم يعد ذا معنى بالنسبة إلى الأميركيين، سيّما بعد عودة ملف الإرهاب في اليمن إلى وضعه السابق بينهم وبين الحكومة، وفقا لاتفاقيات قديمة، أبرمت مع نظام الرئيس الراحل، علي عبد الله صالح، وجدّدها من بعده الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي، عقب توليه السلطة في فبراير/ شباط 2012.
ومع ذلك، علينا أن نتوقع أن الحوثيين لن يكونوا لقمةً سائغة؛ ليس لأنهم في موضع يسمح لهم بذلك، فهذا ما لا يبدو الآن، ولكن لأن الحرب، في مجملها، شديدة التشابك مع قضايا إقليمية ودولية، من أبرزها الاتفاق النووي الإيراني، إلا أن الأزمة المتصاعدة بين السعودية والإمارات بشأن قضايا أخرى، غير مصالحهما في اليمن، قد تلقي بظلالها على معركة البيضاء؛ إذ ما الذي يمنع الإمارات من فتح قنوات اتصال مع الحوثيين، في إطار إيجاد مزيد من الضغوط على السعودية في مضمار هذه الأزمة، مع ما يتيحه ذلك من التقريب بين الحوثيين وحلفائها على الطرف الآخر، خصوصا المجلس الانتقالي الجنوبي، والمكتب السياسي للمقاومة الوطنية.
العربي الجديد