
في وداع جبل
ليلة الخميس، هبّ هبته الأخيرة لنجدة الأفراد الذين وقعت بقربهم قذيفة أطلقتها المليشيا.
بعد صلاة الجمعة، سرنا خلفه المسير الأخير إلى المقبرة.
حضرت وجاهات المخلاف، وحضرت القيادات العسكرية، وحضر المقاتلون، وحضر أفراده ومعاريفه وحضر الحزن.
رغم بعده عن الأضواء، لم يكن الفقيد عادياً، كان قائد لواء في المقاومة، وحين ابتعد كان جبلاً متحركاً على هامته تنتصب ألوية البلاد. فكيف يكون وداع الجبال؟.
تعالوا أحدثكم عن القائد فائز سرحان، الذي استشهد بالأمس برفقة بطل اسمه مروان السبئي، بقذيفة حوثية أصابت شظاياها أفراداً آخرين..
لم يكن فائز سرحان يحمل رتبة عسكرية رسمية، لكنه كان من طينة الرجال الذين تُصنع بهم المعارك. عندما توارى أصحاب المناصب والرتب، برز فائز في الميدان من اللحظة الأولى، ومنذ ذلك الوقت لم يعرف الراحة، عاش مسكوناً بهم تحرير المحافظة، حمل هذا الهم كعبء شخصي لا يحتمل التأجيل، وتحديداً أثناء توليه قيادة أحد ألوية المقاومة الشعبية، كان يستعين بخبراء عسكريين لإعداد الخطط ودراستها، كان يقارنها بالواقع، يستطلع خطوط التماس، ويتفحص مكامن القوة والضعف لرسم الخطة: يعرف فائز أي خط ممكن التحرك منه لبدء عملية التحرير، يعد ذلك في ذهنه وعلى الورق، ولا يجبر أحد على الاستماع إليه.
سمعت أحد الأفراد الذين عملوا معه، قال فيما معناه، أن فائز لم يكن ينام.. كان يعمل لثلاثة أيام متتالية بلا نوم.. تتحول عيناه إلى خريطة حية للمعركة، كان القات والشاي رفيقيه، كان يحب الشاي كثيراً، لكن حبه للبلاد أكثر.
عندما غادر موقعه كقائد لأحد ألوية المقاومة الشعبية؛ اعتذر للأشخاص الذين يعملون معه، لأنه لن يتمكن من دفع المصاريف خلال الفترة القادمة، أرشدهم للوجهة المناسبة التي يواصلون فيها العمل العسكري، احتفظ بالعمل/ رؤية التحرير إلى أن تحين اللحظة المناسبة، هو لم ينسحب أيضاً، بل اختار الجبهة التي يقاتل فيها بجهده، مؤمناً بأن المعركة لا تتوقف عند موقع المسؤولية.
فائز شخص عقلاني، قيادي رزين، لا يحب الثرثرة، إذا حضر مجلساً ستجد حديثه مقتضباً لكنك ستلمح خلف تجاعيد جبهته الكثير من العمل والأسرار، الهموم والخطط، البساطة وعزة النفس. في الشدائد يظهر عزم الرجال وعملهم، كان فائز يمسك جبهة ريثما يتجاوز أصحابها إشكالات ما، يعزز جبهة في موقع ما.. كان سريع النجدة يحضر مع أفراده المتبقين في المواقف التي تتطلب الحضور ودون نداء من أحد.
لم يفتعل فائز المشاكل، لا نزاعات على أراضٍ ولا خلافات عقارية. كل خلافاته – إن وُجدت – تدور حول توجيهات أو خطط، ومع ذلك لم يسمح لها أن تطول، فالجبهات تذيب خلافات الرجال الحقيقيين.
كان جبلاً.. كان قامة شامخة من قامات المقاومة الشعبية في تعز، بحسب بيان النعي الذي أصدره المجلس الأعلى للمقاومة الشعبية: «منذ اللحظات الأولى لانطلاق شرارة المقاومة في محافظتنا الأبية، كان الفقيد في الصفوف الأمامية، مجاهداً باسلاً ومقاتلاً شرساً، لم يتوانَ لحظة عن الدفاع عن أرضه وعرضه وكرامة شعبه».
لم يملك فائز المال الغزير كان قادراً على جمع الثروة لو أراد. كان بإمكانه الانتقال إلى أي مكان ليعيش حياةً مريحة بمال وفير، بل كان يقدر أن يحصل على الأموال في مكانه، لكنه كان مقتنعاً بأن دوره أكبر من المال ومؤمناً بأن المعركة تستحق، كان بالفعل «مثالاً يحتذى به في الإخلاص والتفاني ونكران الذات».
إلى جانب شجاعته القتالية وتفكيره العسكري، كان شخصية اجتماعية تتسم بالطيبة والود، هذه الشمائل وغيرها صنعت منه قائداً قادراً على جمع الناس، والتفاف المقاتلين حوله في الميدان.
رحل فائز سرحان جسداً، لكنه سيبقى رمزاً للقيادة الحقيقية التي لا تصنعها الرتب، بل الإرادة والتضحية. لم تكن قوته في سلاحه، بل في قِيَمِه التي جعلت منه قائداً حق على البلاد ألا تنساه.
إضافة مهمة من منشور لهشام المخلافي:"..اليوم ونحن نودّع الشهيد إلى مثواه الأخير في مقبرة الشهداء سألتُ أحد رفاقه عن رتبته العسكرية هل هو عقيد؟ نقيب؟ أم ملازم؟
فجاءت الصدمة: الشهيد لم يُرقّم ولم تُسوَّ وضعه حتى كعسكري رسمي في صفوف الجيش رغم كل ما قدّمه حتى لحظة استشهاده!
وفي مجلس العزاء كثر الحديث عن هذا البطل وتضحياته لكن وكما اعتدنا لا يُذكر الشرفاء والمناضلون إلا بعد رحيلهم".
* يمن شباب نت