بيوت القهوة اليمنية تلامس حدود كندا
في تاريخ القهوة والمقاهي ودورها في الحياة الثقافية، لدينا خيوط تمتدّ من اليمن في القرن الخامس عشر حتى "العالم الجديد" (أميركا) في السنوات التي سبقت "الثورة الأميركية"؛ حيث انتشرت المقاهي في بوسطن (مهد الثورة والأفكار الجديدة التي ألهمت الدستور الأول) عشية رفع شعار "لا ضريبة دون تمثيل" عام 1765، وصولاً إلى "حفلة شاي" بوسطن في عام 1773 والثورة المسلّحة في 1775.
وتطوّرت المقاهي لاحقاً في الولايات المتّحدة بعد استقلالها وتطوُّرها لتُصدّر إلى العالم الطبعة الجديدة من القهوة (القهوة الأميركية بأنواعها) والمقاهي ("دانكن دوناتس" و"ستار بوكس" وغيرها) التي أصبحت من مظاهر الثقافة الأميركية في العالم.
كانت تلك فترة مجيدة أيضاً لـ "اليمن السعيد" كما عُرف آنذاك، حين أصبح اليمن أهمّ منتج للقهوة المطلوبة في العالم، وصار ميناء المخا من أشهر الموانئ لتخصُّصه في تصدير القهوة، حتى أصبحت خلطة أو قهوة "الموكا" في العالم تُنسَب إليه، قبل أن تجد الإمبراطوريات الأوروبية الجديدة (هولندا وبريطانيا وإسبانيا والبرتغال) مناطق جديدة تناسب زراعة القهوة (جنوب شرق آسيا ووسط أفريقيا وأميركا الجنوبية) وتكسر احتكار اليمن في إنتاج وتصدير القهوة.
في غضون ذلك، بدأت المقاهي تُعبّر عن ثقافة البلدان التي انتشرت فيها، وعمّا يدور فيها من أحاديث، وما يصاحب شرب القهوة من إضافات (حلويات) محلّية، فأصبحت مقاهي الحجاز ومصر والشام ملهمة للمقاهي التركية التي انتشرت مع توسُّع الدولة العثمانية في البلقان وأوروبا الوسطى، وكانت بذلك صلة الوصل مع الجيل الجديد من المقاهي التي انتشرت في فيينا وباريس ولندن.
وكان أستاذي الموسوعي الذي أشرف على أطروحتي في الأدب المقارن، شوكت بلانا (1921 - 1994) يقول لنا إنّ العثمانيين فشلوا للمرّة الثالثة في فتح فيينا عام 1683م، ولكنّهم نجحوا في إدخال القهوة ونوادر نصر الدين خوجة إليها، لتصبح "مقاهي فيينا" ملهمة لجيل جديد من المقاهي في العالم.
في هذا السياق، لدينا مع ازدياد الوجود العربي في الولايات المتّحدة محاولات متزايدة لاستثارة حنين الجاليات العربية إلى موطنها الأصلي وما يقدّمه مع القهوة، وتعريف الجمهور الأميركي إلى نمط جديد من المقاهي يحمل نكهة مختلفة عن "دانكن دوناتس" و"ستار بوكس"، سواء بمشهد المقهى من الداخل، أو بما يقدّمه من أنواع القهوة مع حلويات مختلفة.
ومن هذه المحاولات قيام الفنّان التشكيلي السوري محمد الحافظ بافتتاح مقهى "بستاشيو" في مدينة نيو هفن التي تحتضن "جامعة ييل" المطلّة من بعيد على المحيط الأطلسي. فقد نجح هذا المقهى في الأمرَين المذكورين: اجتذاب الجالية العربية حتى من المدن القريبة بدافع الحنين إلى هذا المقهى الذي تحوّل في الواقع إلى نصف مطعم يقدّم وجبة فطور شهية كأنك في بيروت أو دمشق، وتعريف الجمهور الأميركي بنكهات مختلفة للقهوة مع حلويات تحمل طعم الشرق بالفستق.
ومن شرق الولايات المتحدة لدينا في الوسط الأميركي المحاذي لكندا تجربة جديدة مع "بيت القهوة" اليمني الذي افتتح مؤخّراً في ديربورن، ضاحية ديترويت التي أصبحت أكبر تجمّع للعرب بالنسبة لعدد السكّان (حوالي 40%)، والذين يعود وجودهم إلى التاريخ المجيد لديترويت في بداية القرن العشرين.
كانت ديترويت، آنذاك، عاصمة صناعة السيارات الآخذة في الانتشار. ولكنّ الصناعي المشهور هنري فورد واجه مشكلة الإضرابات العمّالية، ولذلك رحّب بقدوم عمّال من مناطق لا تعرف الإضرابات مثل لبنان واليمن، وانضمّ إليهم فيما بعد فلسطينيون (بعد 1948) وعراقيون (بعد 2003) وسوريون (بعد 2010) وغيرهم. ومن هنا تجد في الشارع الرئيسي الممتدّ في ديربورن محلّات مختلفة تشعر فيها لغة وبضاعة ومعاملة كأنك في لبنان أو اليمن.
ضمن هذه الخصوصية افتتح مؤخراً في هذا الشارع الرئيس "بيت القهوة" اليمني الذي تكشف واجهته المرحبّة بـ "أهلاً وسهلاً"، عمّا فيه من مفاجآت في المجال الواسع بالداخل. فهناك أوّلاً واجهة كاملة عليها خريطة العالم، حين كان اليمن قلب عالم القهوة ومركز انتقال القهوة إلى أنحاء العالم، بما في ذلك خطّ أخضر يوضّح انتقالها إلى الولايات المتّحدة الأميركية لتُقدّم لزبائن "بيت القهوة"، وهناك ركن بأكياس القهوة الواصلة من اليمن التي ترحّب شعراً بالزبائن، بالإضافة إلى أبيات الشعر العربي التي تُشعر الزبائن العرب بأنهم في عاصمة عربية.
أمّا بالنسبة إلى الجمهور الأميركي، فـ "بيت القهوة" اليمني فرصة لاكتشاف ما كان عليه "اليمن السعيد"، عندما كان عاصمة القهوة ومركز التصدير الرئيسي لها إلى أنحاء العالم، وفرصة لتذوّق القهوة اليمنية المخـتلفة عن الشامية والتركية التي تُقدَّم في إبريق خاص على الطريقة اليمنية، وهي فرصة لتذوّق بعض الحلويات اليمنية التي لا تجدها في مكان آخر.