من يرفض صرف مرتبات الموظفين في اليمن؟

يحاول الحوثيون منذ فترة أن يكرسوا فكرة أنهم رفضوا الهدنة في اليمن، لعدة أسباب تتعلق بمصلحة «الشعب اليمني العزيز»، وليس بمصلحة ميليشياتهم، وفي مقدمة هذه الأسباب أن الحكومة رفضت دفع مرتبات الموظفين، وأن الحوثيين وحرصاً منهم على حقوق الموظف رفضوا التوقيع على أية هدنة ما لم تصرف حقوق الموظفين التي هي حق مكتسب لا منحة من أحد.

الكلام جميل، ويبرز الحوثي لدى من لا يعرف الحقيقة جماعة ذات أبعاد وطنية تطالب بحقوق القطاعات الأكثر تأثراً بالحرب التي ترفض الحكومة صرف مستحقاتها.

الضخ الإعلامي جميل، لكن الواقع مختلف تماماً، بل هو على النقيض مما هو مطروح إعلامياً، وهو الواقع الذي يعرف تفاصيله المبعوث الدولي هانس غروندبيرغ، وبإمكان أي ناشط أو صحافي يريد إيصال الحقيقة للقراء أن يصل إلى النتائج التالية:

الحوثي رفض الهدنة، ليس لأن الحكومة ترفض صرف المرتبات، وبإمكان أي كان أن يتأكد من تلك الحقيقة بالتواصل مع مكتب المبعوث الأممي، أو مع أي جهة محايدة على اطلاع بمسار التفاوض.

الحقيقة الثانية: الحوثي يريد في اليمن وضعاً تكون فيه السلطة والثروة من نصيبه، فيما تكون المسؤولية والخدمات من نصيب الحكومة، بمعنى أنه يريد من الحكومة أن تقوم بالخدمات وتصرف المرتبات، فيما هو يتحكم بالإيرادات ويمتلك كافة السلطات. يريد وضعاً أشبه بوضع حزب الله الذي يحوز السلطة الحقيقية في لبنان، فيما تقع على الحكومة اللبنانية كل المسؤوليات والخدمات.

خذوا هذه: تصرَّف الحوثيون بإيرادات الحساب البنكي الذي أودعت فيه عائدات ميناء الحديدة التي كانت مخصصة لصرف مرتبات الموظفين بإشراف الأمم المتحدة، حسب اتفاق ستوكهولم الذي وقع عليه الحوثيون نهاية 2018، وهذا ليس كلام مسؤول حكومي، ولكنها تصريحات المبعوث الدولي السابق مارتن غريفيث الذي قال في حوار صحافي نشره موقع أخبار الأمم المتحدة إن «أنصار الله سحبوا الأموال التي تم جمعها بشكل أحادي».

وبعد أن تصرف الحوثيون بهذه المليارات لجؤوا للقول بأن تلك الإيرادات لا تكفي لتغطية مرتبات الموظفين، وهي مغالطة أخرى ينفيها واقع كشوفات الموظفين وحجم الإيرادات، ومع ذلك وافقت الحكومة على تغطية المرتبات من ميزانية الحكومة بالإضافة إلى ما يتوفر من إيرادات الميناء التي يصادرها الحوثيون، على أن تتحمل الحكومة تغطية كافة مناطق الجمهورية.

ما لا يقوله الحوثين هو أنهم يريدون أن يحتفظوا لأنفسهم بإيرادات الميناء كاملة دون أن تمس، وأن تتحمل الحكومة مسؤولية المرتبات لكافة قطاعات الدولة، وفي كل محافظات الجمهورية، دون أن يقدموا تبريراً لمخالفتهم لاتفاق استوكهولم الواضح في تحويل كل عائدات الميناء لصالح صرف المرتبات.

وفوق ذلك، وبعد أن وافقت الحكومة على صرف مرتبات الموظفين كافة، وفقاً لكشوفات ما قبل الانقلاب الحوثي في 2014، (وهي الخطة التي تقدم بها المبعوث الأممي الحالي) لجأ الحوثيون إلى عقدة أخرى وضعوها في المنشار، وهي أنهم رفضوا كشوفات 2014 بحجة أن لديهم «شهداء» ولجانا شعبية وعسكريين يجب أن يدخلوا ضمن كشوفات المرتبات، وكانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقال.

وبعبارة أخرى، يركز الحوثيون على أن تصرف الحكومة مرتبات عناصر ميليشياتهم و«شهدائهم» الذين سقطوا وهم يقاتلون الحكومة التي يراد منها أن تصرف مرتباتهم، دون أدنى اهتمام بموظفي الخدمة المدنية الذين لو كان الحوثيون يطالبون بمرتباتهم لوافقوا على كشوفات الخدمة المدنية للدولة اليمنية، وهي الدولة التي تمثلها كشوفات 2014.

يريد الحوثي في اليمن وضعاً تكون فيه السلطة والثروة من نصيبه، فيما تكون المسؤولية والخدمات على الحكومة، بمعنى أنه يريد من الحكومة أن تقوم بالخدمات وتصرف المرتبات، فيما هو يتحكم بالإيرادات ويمتلك السلطات، وهو وضع يشبه وضع حزب الله في لبنان

كما أن الحوثيين اشترطوا أن تسلم لهم أموال المرتبات ليقوموا هم بالتصرف فيها، فيما ترى الحكومة أن تصرف المرتبات مباشرة بتحويلها عبر شركات صرافة محايدة لتصل مباشرة للموظفين، دون أن يتحكم بها الحوثي الذي لديه سجل حافل بالسيطرة على أموال المعونات الإنسانية، حسب تصريح شهير لديفيد بيزلي المدير التنفيذي في برنامج الغذاء العالمي الذي صرح في ديسمبر 2018 أن الحوثيين «يسرقون الطعام من أفواه الجياع في اليمن»، ومع ذلك رفض الحوثي كل تلك الحقوق التي وفرتها الحكومة للموظفين، كل ذلك، لأنه يريد أن تصرف مرتبات مقاتليه من جهة، ويريد كذلك أن تسلم له كل المرتبات ليتصرف هو بها، ناهيك عن رفضه تسليم إيرادات ميناء الحديدة، التي التزم بتسليمها في اتفاق ستوكهولم الذي لم ينفذ منه شيء على الرغم من أنه كان لصالح الميليشيات في معظمه.

خلاصة الكلام: يريد الحوثيون وضعاً تكون لهم في السلطة، وتقع على غيرهم المسؤولية، وهذا وضع شاذ، لا يمكن أن تقوم عليه دولة طبيعية، ذلك أن الوضع الطبيعي هو أن الجهة التي تملك السلطة وتحصل الإيرادات هي التي يجب أن تتحمل المسؤولية وتصرف المرتبات، أما أن تكون السلطة لجهة، وتقع المسؤولية على جهة أخرى، ضمن دولة واحدة، فهذا يعني أن نتحول إلى وضع دولة داخل الدولة، أو وجود سلطتين في دولة واحدة: سلطة حقيقية غير ظاهرة هي التي تتحكم فعلياً في المقدرات وتصوغ السياسات، ولكنها لا تتحمل المسؤوليات، وأخرى شكلية تحكم ظاهرياً، ولكنها تتحمل المسؤولية من خدمات ومرتبات وغيرها.

هذا الوضع غير الطبيعي هو الذي يريده الحوثيون، هم في الحقيقة يريدون السلطة، ولكنهم لا يريدون المسؤولية، يريدون التحكم ولا يريدون الحكم، وهذا هو السبب الحقيقي لإفشال جهود الهدنة، وليس ما يشيعه الحوثيون من أنهم رفضوها لأن الحكومة رفضت صرف المرتبات، هذه دعاية حوثية فارغة كذبها المبعوث الدولي والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن وكل الأطراف الدولية التي حملت الحوثيين دون أية مواربة مسؤولية إفشال الهدنة في اليمن، بعد أن وافقت الحكومة على تسوية قضية المرتبات، ناهيك عن الموافقة على فتح ميناء الحديدة، وزيادة عدد الرحلات الخارجية من وإلى مطار صنعاء، الذي يريده الحوثيون أن ينفتح على كل الوجهات، وهو ما يرفضه المجتمع الدولي والإقليمي، قبل الحكومة اليمنية، وذلك لاعتبارات أمنية يعرفها كل من يعرف سلوك الحوثيين خلال السنوات الماضية.

ومع أن الحوثيين يعرفون أنهم هم من أفشل الهدنة إلا أنهم يستمرون في تزييف الواقع، اعتماداً منهم على ما يعتقدونه من أن الاستمرار في ترديد الكذبة يمكن أن يجعل منها حقيقة، بتوظيف كل الآلة الإعلامية التي جندت لها قنواتهم التلفزيونية وكل القنوات المرتبطة بما يعرف بـ«محور المقاومة» الذي يكفي أن نعرف أنه يسوق لحروبه الطائفية في البلدان العربية، على أساس أنها جزء من مقاومة أمريكا وإسرائيل، وذلك هو عين التزييف الذي يمارسه الحوثيون الذين يشترطون صرف الحكومة لمرتبات مقاتليهم الذين يقاتلونها، ثم يشيعون أنهم رفضوا الهدنة، لأن الحكومة ترفض صرف مرتبات الموظفين الذين يدافع الحوثيون عن مستحقاتهم التي «تسرقها الحكومة»، التي يدعمها تحالف «يسرق ثروات اليمن النفطية والغازية»، وهذه فرية أخرى يصدقها من يمكن أن يصدق أن السعودية مثلاً، وهي التي تصدر ملايين براميل النفط يومياً تسرق ما لا يتجاوز 100 ألف برميل نفط يمني.

هذه هي الحقيقة، بلا رتوش ولا تشويه، وهي الحقيقة التي يمكن أن يتأكد منها كل من أراد التأكد، بمجرد التواصل مع أي من الوسطاء المحليين والإقليميين والدوليين.

وبطبيعة الحال، فإنه لا يمكن قراءة رفض الحوثيين للهدنة بمعزل عن الملفات الإيرانية الشائكة، وفي مقدمتها الملف النووي الإيراني، ناهيك عن الأوضاع الحالية الملتهبة في إيران، والتي يدرك المراقب من خلالها أن النظام في طهران يريد أن يحاول تصدير أزماته الداخلية للخارج.


القدس العربي