حُجرية تعز: سر اليمن المكنون
- السبت, 22 أغسطس, 2020 | عادل الاحمدي
قبل 28 عاماً، عملت لأسبوعين أثناء العطلة الصيفية، حمّالاً في شركة نانا للأغذية، أقوم بإنزال كراتين الزبادي من عربة التوزيع إلى المحال، وانتهت القصة بالتهاب رئوي حاد بسبب مكوثي داخل ثلاجة الأيسكريم العملاقة، الشاهد من ذلك، أنني من يومها بدأت رحلة البحث عن إنسان الحجرية. كان سائق عربة التوزيع أحد أبناء الأعروق، نتقاضى معاً أجراً زهيداً، ويصطحبني إلى بيته في أقصى نقم، نتغدى سوياً مع أبنائه حبة زبادي أحضرها معه، وعصيد أعدته زوجته، ثم نقسم ربطة القات السوطي بيننا ونواصل العمل.
بعدها بعامين زرت الحجرية رفقة زميلي وصديقي أنيس ياسين القدسي، لتصبح تلك الزيارة الجناح الآخر في رحلة الغوص الطويلة التي خرجت منها بهذا المقال عن تعز بشكل عام، والحجرية بشكل خاص.
يتحدث المجتمع عن تميز أبناء تعز، وخصوصا أبناء الحجرية، ودأبهم وحبهم للتعلم والعمل، ولكن هذا ملمح واحد من جملة خصائص أظن أن علينا كيمنيين أن نتمعنها جيداً، حتى نعرف سر هذه المنطقة التي ملأت ساحة الوطن بالأسماء والرموز في كل مجال.
اثنان من الحجرية أحبا بعضهما فأصبح اليمن كله عاشقاً، تاجر من الأعروق ملأ الحوبان وباجل وكوالالمبور بالمصانع، ومهندس من بني يوسف أغرق المنطقة العربية بالبرمجيات، وعبقري من بني عمر حقق قفزة في الاتصالات، وطباخ من بني شيبة ملأ المدن بالمطاعم، وفنان من الأعبوس أنعش صباحاتنا بالحيوية والنشاط، ومذيعة من شرجب أنستنا قيظ الظهيرة، ودبلوماسي من الأحكوم كسب بأخلاقه دولا وشعوبا.. باحث من الأصابح، مثقف من العزاعز، متصوف من جبل حبشي، شرطي من الأعلوم، رسام من سامع، شاعر من بني حماد، محامٍ من أديم، رياضي من الأكاحلة، سياسي من قدس، مبرمج من الأثاور، مدرس من الأخمور، أكاديمي من الصلو، ميكانيكي من النجيشة، حداد من القريشة، مؤرخ من الأغابرة وطبيب من المقاطرة.. كم ذا سنعُدُّ وكم ذا سنعدّد.
مجتمع كله أرقام صحيحة. كلهم صناع حياة، صغيرهم والكبير، المليادير وصاحب المحلاية وسائق الشاحنات في الخط الطويل، الشيخ والطفل والمرأة، السابقون والمعاصرون واللاحقون.
ما السر وراء ذلك كله ولماذا صارت الحجرية مضرب المثل في الاجتهاد والتميز والنبوغ.
لا أظن أن ثمة منطقة حاضرة في جميع أنحاء الوطن، ومؤثرة في كافة مناحي الحياة، مثل الحجرية. مع ذلك لا أظن أن ثمة مكاناً غامضاً في نظر كثيرين، مثلما هي الحجرية.
قبل 26 عاماً، كانت زيارتي الأولى إلى الحجرية، ومنذ ذلك الحين وأنا أحاول الإمساك بتلابيب هذا الكيان المدهش الذي حصد إعجاباً وصل عند البعض حد الغيرة وربما الحسد. وأكاد أجزم أن الاقتراب من هذا الموضوع أمرٌ ليس لازماً لمعرفة المكان والإنسان في هذا الحيز الجغرافي من الوطن فحسب، بل لمعرفة المجتمع اليمني الكبير الذي استطاعت الحجرية أن تلملم أفضل ما فيه من صفات.
عندما نتحدث عن الإدارة والاقتصاد تقفز الحجرية للذهن، وعندما نتحدث عن الصناعة فالحجرية في صدارة الحضور، وحينما نتحدث عن الفن تصبح الحجرية في المقدمة. كذلك حينما نتحدث عن الأدب والغذاء والطب والهندسة والتعليم والجيش والسياسة والقانون.. الخ.
إنها مصنع الجمهورية وزيت الوحدة الوطنية وعماد الحركة والحياة في كل أنحاء البلاد.
حيّز من الأرض، أقل مساحةً من حرف سفيان، وأقل خصباً من إب، لكنها المخزون البشري الأول الذي يملأ اليمن بالكوادر والأسماء والألقاب بدءاً من صاحب البوفية مروراً بالمدرس وليس انتهاءً بالسياسي والعسكري.
كان عبدالرقيب عبدالوهاب نعمان بطل ملحمة السبعين، وكان عدنان الحمادي بطل الصمود في وجه مليشيا الحوثي، وما زال استشهاده جرحاً يؤرق كل حر.
في هذه المنطقة ثمة أعلى درجات التوافق الاجتماعي والتصالح النفسي. ليس ثمة هلع ولا تحاسد ولا يأس. الكل يحترم العمل، والكل يحترم الجميع. صداقة عجيبة بين الأجيال، الكهول والأطفال والشباب، واحترام لكل المهن. لا عنصرية إزاء مهنة، ولا تجد منها متسولاً، الكل يخرج من صباح الصبح مردداً مع أيوب “أيا معين.. ألا يا الله يا رازق الطير، ما في المقايل لنا خير، ولا السؤال من يد الغير”.
قبائل حميرية أصيلة من السكاسك، نسيَتْ التعصب القبلي. تجد في كل واحدة منها كل أصناف التميز، مع ميزة تنفرد بها كل منطقة حجرية عن سواها. فمثلاً يشتهر بنو شيبة بالمطاعم ولكنك تجدهم أيضاً في كل مجالات الحياة، أطباء، مهندسين، تجارا، وهكذا كل مكونات المعافر.
ثمة ملحة أو طرفة أو نكتة، عن كل منطقة داخل الحجرية يرددها الجميع هناك دون انتقاص، ما يجعل الحياة مفعمة بالحيوية والتحاب.
لا تجد صعوبة في أن يصبح ابن الحجرية صديقاً لك، وبلا تكلف. ويستطيع ابن الحجرية أن يتغلغل وينصهر في مناطق اليمن المختلفة، بكل سهولة ويسر.
أينما حلّ أبناء الحجرية، تدبّ الحياة، خبز طاوة، خمير، شاهي حليب، صحف الخ. أول من يفتح دكانه في الصباح، وآخر من يغلقه في الليل. تجدهم على هذه الحال من الحفاظ على الشخصية المحلية، داخل قراهم وفي صنعاء وفي جدة وبرمنجهام والقاهرة.
هم أقصى الجنوب ولكنهم شمال، وهم شمال ولكنهم في عمق الجنوب، لهذا لم يستطيعوا إلا أن يكونوا مشتركاً وطنياً يعمل على تعزيز لحمة المجتمع اليمني. من هنا نعرف لماذا صار الوطن كله يردد نشيداً جمهورياً ألف كلماته ولحنها اثنان من أبناء الحجرية.
قال لي ذات يوم، أحد الحضارم إنه زار بريطانيا ودعاه أحد أبناء الحجرية ممن هاجر آباؤهم قبل عقود من الزمن ضمن البحارة القدامى الذين عملوا مع الانجليز في عدن. قال عبدالله باوزير: “لم أكن أعرف إلى يومها، المعنى الكبير لليمن إلا حينما أكملنا الغداء، وفتح ذلك الرجل التعزي أغنية مدارب السيل. كان يسمعها بخشوع، ويسكب دموعه كالمطر”.
أينما يصل ابن الحجرية فإنه يحافظ على عاداته وتقاليده. يظل متشبتاً بالأرض. يحفظ الأمثال الشعبية عن ظهر قلب. يستمع إلى الملالاة ويتغدى مع أبنائه على اللبن والوزف.
ثمة عقلية بنائية مؤسسية تكتنز خبرة حضارية يتم استحضارها بلا عناء. وكلما ارتفع ابن الحجرية إلى مستوى جديد، علمي أو إداري أو مادي، يكون تماما عند شروط ذلك المستوى في الأغلب الأعم، بلا رهبة أو دهشة ولا تعالٍ أو تصنّع أو تنكر لهوية العاس والوزف، والمعوز المطرّز والدسمال الأنيق.
يبدأون من الصفر ويصلون إلى القمة، وإذا ارتكس أحدهم؛ يبدأ ثانية من الصفر بلا أي حرج. لا يطالبه المجتمع بالقفز، بل يحثه على أن يؤثث حياته خطوة خطوة، لذا تجد ابن الحجرية يصل إلى صنعاء أو عدن، طالباً مجتهداً يعيش على الكفاف، وبعد أن يحصل على وظيفة يبدأ بالبحث عن شريكة الحياة ويسكنان معاً في غرفة بسيطة تتوسع في العام الذي يليه إلى غرفتين. وهكذا. (سائق الشاحنة الذي أبهرني قبل ٢٨ عاما في شركة نانا، وجدته بعد سنوات مديرا لأحد فروع التسويق في مجموعة شركات هائل سعيد أنعم).
في تعز عموما، والحجرية خصوصا، ثمة نفور عام من التطرف والتزمت، وثمة سخرية حادة من الطبقية والتعالي والتكبر. إلى ذلك، ليس ثمة حروب ولا ثارات بين مناطق وقبائل الحجرية. إنه نموذج للمجتمع اليمني الذي حرص على أن يكون بمعزل عن كل تأثيرات الإمامة التي تقتل الذات اليمنية، وهنا مكمن السر الكبير.
لا يعتمد ابن الحجرية على الفيد أو على الالتفاف، يقنع بالمحصول ويحرص على أن ينمّي دخله بشطارته واجتهاده، وليس بالاحتيال. وبالتالي ففيها أقل نسبة تحاسد، الكل يساعد الجميع. وتكثر في هذا المجتمع عبارة “الله يفتح عليه”، وآخرون يترجمونها على سبيل الدعابة “عبده قاسم ربي رزقه”.
ونتيجة لتراكم الشواهد في التعاون والتآزر، ثمة من ينظر إلى الحجرية وكأنها مجتمع يُؤْثر نفسه، وهي نظرة ليست صحيحة. إذ كثير من النوابغ من كل مناطق اليمن تتلمذوا على يد جنود مجهولين من الحجرية، صنعوا المعروف وناموا بسلام.
الحجرية، بوصفها الجزء المجتمعي الأكثر تعافيا إزاء مفاهيم الرزق والعمل والحرية والجدارة، ليست سوى نموذج لليمن الكبير بدون الإمامة. يمن يقدّس العمل ويقدّر الإبداع ويحرص على التعلم. يمن يتحول إلى ورشة عمل كبرى لا تسمع فيها إلا أصوات المناجل والمطارق تماما كما كنت أسمعها في ورشة السامعي للسمكرة، بالصافية، وأنا مخزّن على حجرة بلوك وكأنها أريكة من ريش النعام.
ولهذا كله، أصبحت الحجرية مضرب المثل، وبها توصف كل منطقة في اليمن يكثر فيها عدد العمال والمتعلمين، فيقال مثلاً، إن وصاب حُجرية المناطق الوسطى، ويافع حجرية الجنوب، وحجور حجرية حجة، ومراد حجرية مأرب، ورازح حجرية صعدة، وغيل باوزير حجرية حضرموت.
تكثر في الحجرية نسبة الذين تبدأ أسماؤهم بـ”عبد”، مثال عبدالعليم، وعبدالقيوم، عبدالواسع، عبدالغني، وذلك في رسالة أنهم عباد لله وحده وليس لغيره. ولهذا فإن للإمامة الاستعبادية ذكريات مأساوية في مجتمع الحجرية، ومن هنا جاءت الكثير من المقولات المتوارثة، مثل “قدَس نجَس”. لأنهم اغتالوا مندوب الإمام بعد إكرامهم له، بسبب أنه طلب منهم “فراش النوم”!، فقال الإمام معلقا: “قدس نجَس، آخر آية من عبَس”.
تقوم الإمامة العنصرية المتعفنة على احتقار المِهن، والمهن هي الحياة، وهي رأس مال الحجرية الأول. وبالمثل تقوم الإمامة على الطبقية ولا طبقية في الحجرية. لذا تجد أهل الحجرية رغم كونهم قبائل إلا أنهم تخلّوا عن جعل التعصب القبلي وسيلة للترزق أو التكسب. لقد اتجهوا نحو منافذ التخلق الطبيعية: العمل، التعلم، الغربة، الإبداع، الكفاح، التجارة. ولهذا كانت الجمهورية، بشكل ما، ثمرةً حُجرية، وكان أبناؤها في طليعة المستفيدين من قيام النظام الجمهوري وهم من أرضعوه فكراً ومالاً بعدما نالوا قسطاً من التعلم في عدن أيام الانجليز.
ومعروف أن شرارة الحركة الوطنية في الثلث الأول من القرن العشرين انطلقت من داخل ذبحان. ويكفي أن نتأمل مقولة حكيم الثورة حسن الدعيس رحمه الله، والتي قال فيها إن نجاح الحركة الوطنية، موزّع كالتالي:
واحد بالمائة جهود الأحرار، و٣ بالمائة دعم أبناء الحجرية، و96 بالمائة أخطاء الإمامة.
أبناء الحجرية يعلمون أكثر من غيرهم أن عودة الإمامة هي أكبر خطر يتهدد اليمن عموماً والحجرية خصوصاً، لأن الإمامة نقيض للدولة. تعمل الآلة الكهنوتية الإمامية على تحطيم سلالم الصعود الطبيعية وسد منافذ العيش وإغلاق حجرات التعلم وتهييج المناطقية. ومن هنا كان أبناء الحجرية في طليعة المدافعين عن الدولة والجمهورية، منذ ٢٠٠٤ وحتى الآن. حافظوا على منطقتهم بآلاف الشهداء، وتوزعوا في كل جبهات البطولة والكرامة من باقم إلى مأرب، إلى المخا، لدفن المجازفة الإمامية الأخيرة.
هؤلاء الذين كان البعض يظن أنهم ليسوا أهل عسكرة، بدوْا أشاوس وصناديد لا نظير لهم. إن القصص القادمة عن بطولات قرية واحدة في مديرية جبل حبشي تكفي لأن يقف الوطن كله احتراماً وإجلالاً لأبناء هذه الأرض، الذين ما يزالون إلى اليوم يمثلون سداً منيعاً أمام زحف الإمامة، وماكينة عبقرية متفاهمة تعيد الإمامة إلى مقابر التاريخ. ويبدو واضحا أن الإمامة فكرت ببدائل أخرى بعد أن يئست من دخول الحجرية بقوة السلاح، فحاولت إثارة النعرات وإشعال أهواء الزعامة لدى بعض رموز الحجرية، بطريقة تدفعهم لإحراق أنفسهم وليس لإثبات زعامتهم، إذ يفشل ابن الحجرية حينما يسعى إلى فرض مكانته الاجتماعية وحضوره السياسي، على طريقة العصيمات أو بني حشيش. هي خصائص لا تتغير، بها تميّز أبناء هذه المنطقة، وبغيرها يصبحون كالآخرين.
في الحجرية وحدها، تجد أن الحزبية لم تكن سُمّاً زعافاً يمزّق النسيج الاجتماعي. قرية واحدة في شرجب منها ثلاثة أمناء عموم أحزاب، وجميعهم يفطرون على مائدة واحدة. لكن الحوثية اليوم تريد أن تجعل الحزبية أداة هدم للحجرية، والأمر ينطوي على خطورة أكبر، حينما أصبح لبعض الأحزاب امتدادات عسكرية، يحاول الكهنوت تحريضها ضد بعض.
وبسبب الأهمية الاستراتيجية للحجرية باعتبارها حامية باب المندب، وبوصفها “ريف عدن”، وزيْت الجمهورية، تتسابق المشاريع المعادية في الوقت الحاضر، مستهدفة الحجرية وبطريقة يقف لها وعيُ أبناء المنطقة بالمرصاد.
في الحجرية يكمن الحامل الجيني لليمن المنشود، إنها النواة الصلبة التي تخترِق ولا يخشى عليها من أي اختراق. لا ينبغي أن تكون إلا بحجم اليمن الكبير بكل أنحائه وأشواقه وقبائله ولهجاته. إنها اليوم، الشرنقة التي يستعيد فيها الكائن اليمني دورته من جديد، وحاليا تحتضن مدينة التُربة ندوات فكرية يومية في كل مقيل تمعن في دراسة وتعرية الزيف الإمامي، وتبتكر الحلول لإسقاط الكهنوت بالضربة القاضية. وأول هذه الحلول أن تستعيد كل هامات الحجرية أقدريتها على احتواء “الجميع” وصنع المفاجأة. ول عبدالهادي العزعزي أن يعرعر بعدها لكل مرتجف لا يدرك معنى اليمن.
نقلا من صفحة الكاتب على الفيسبوك
بعدها بعامين زرت الحجرية رفقة زميلي وصديقي أنيس ياسين القدسي، لتصبح تلك الزيارة الجناح الآخر في رحلة الغوص الطويلة التي خرجت منها بهذا المقال عن تعز بشكل عام، والحجرية بشكل خاص.
يتحدث المجتمع عن تميز أبناء تعز، وخصوصا أبناء الحجرية، ودأبهم وحبهم للتعلم والعمل، ولكن هذا ملمح واحد من جملة خصائص أظن أن علينا كيمنيين أن نتمعنها جيداً، حتى نعرف سر هذه المنطقة التي ملأت ساحة الوطن بالأسماء والرموز في كل مجال.
اثنان من الحجرية أحبا بعضهما فأصبح اليمن كله عاشقاً، تاجر من الأعروق ملأ الحوبان وباجل وكوالالمبور بالمصانع، ومهندس من بني يوسف أغرق المنطقة العربية بالبرمجيات، وعبقري من بني عمر حقق قفزة في الاتصالات، وطباخ من بني شيبة ملأ المدن بالمطاعم، وفنان من الأعبوس أنعش صباحاتنا بالحيوية والنشاط، ومذيعة من شرجب أنستنا قيظ الظهيرة، ودبلوماسي من الأحكوم كسب بأخلاقه دولا وشعوبا.. باحث من الأصابح، مثقف من العزاعز، متصوف من جبل حبشي، شرطي من الأعلوم، رسام من سامع، شاعر من بني حماد، محامٍ من أديم، رياضي من الأكاحلة، سياسي من قدس، مبرمج من الأثاور، مدرس من الأخمور، أكاديمي من الصلو، ميكانيكي من النجيشة، حداد من القريشة، مؤرخ من الأغابرة وطبيب من المقاطرة.. كم ذا سنعُدُّ وكم ذا سنعدّد.
مجتمع كله أرقام صحيحة. كلهم صناع حياة، صغيرهم والكبير، المليادير وصاحب المحلاية وسائق الشاحنات في الخط الطويل، الشيخ والطفل والمرأة، السابقون والمعاصرون واللاحقون.
ما السر وراء ذلك كله ولماذا صارت الحجرية مضرب المثل في الاجتهاد والتميز والنبوغ.
لا أظن أن ثمة منطقة حاضرة في جميع أنحاء الوطن، ومؤثرة في كافة مناحي الحياة، مثل الحجرية. مع ذلك لا أظن أن ثمة مكاناً غامضاً في نظر كثيرين، مثلما هي الحجرية.
قبل 26 عاماً، كانت زيارتي الأولى إلى الحجرية، ومنذ ذلك الحين وأنا أحاول الإمساك بتلابيب هذا الكيان المدهش الذي حصد إعجاباً وصل عند البعض حد الغيرة وربما الحسد. وأكاد أجزم أن الاقتراب من هذا الموضوع أمرٌ ليس لازماً لمعرفة المكان والإنسان في هذا الحيز الجغرافي من الوطن فحسب، بل لمعرفة المجتمع اليمني الكبير الذي استطاعت الحجرية أن تلملم أفضل ما فيه من صفات.
عندما نتحدث عن الإدارة والاقتصاد تقفز الحجرية للذهن، وعندما نتحدث عن الصناعة فالحجرية في صدارة الحضور، وحينما نتحدث عن الفن تصبح الحجرية في المقدمة. كذلك حينما نتحدث عن الأدب والغذاء والطب والهندسة والتعليم والجيش والسياسة والقانون.. الخ.
إنها مصنع الجمهورية وزيت الوحدة الوطنية وعماد الحركة والحياة في كل أنحاء البلاد.
حيّز من الأرض، أقل مساحةً من حرف سفيان، وأقل خصباً من إب، لكنها المخزون البشري الأول الذي يملأ اليمن بالكوادر والأسماء والألقاب بدءاً من صاحب البوفية مروراً بالمدرس وليس انتهاءً بالسياسي والعسكري.
كان عبدالرقيب عبدالوهاب نعمان بطل ملحمة السبعين، وكان عدنان الحمادي بطل الصمود في وجه مليشيا الحوثي، وما زال استشهاده جرحاً يؤرق كل حر.
في هذه المنطقة ثمة أعلى درجات التوافق الاجتماعي والتصالح النفسي. ليس ثمة هلع ولا تحاسد ولا يأس. الكل يحترم العمل، والكل يحترم الجميع. صداقة عجيبة بين الأجيال، الكهول والأطفال والشباب، واحترام لكل المهن. لا عنصرية إزاء مهنة، ولا تجد منها متسولاً، الكل يخرج من صباح الصبح مردداً مع أيوب “أيا معين.. ألا يا الله يا رازق الطير، ما في المقايل لنا خير، ولا السؤال من يد الغير”.
قبائل حميرية أصيلة من السكاسك، نسيَتْ التعصب القبلي. تجد في كل واحدة منها كل أصناف التميز، مع ميزة تنفرد بها كل منطقة حجرية عن سواها. فمثلاً يشتهر بنو شيبة بالمطاعم ولكنك تجدهم أيضاً في كل مجالات الحياة، أطباء، مهندسين، تجارا، وهكذا كل مكونات المعافر.
ثمة ملحة أو طرفة أو نكتة، عن كل منطقة داخل الحجرية يرددها الجميع هناك دون انتقاص، ما يجعل الحياة مفعمة بالحيوية والتحاب.
لا تجد صعوبة في أن يصبح ابن الحجرية صديقاً لك، وبلا تكلف. ويستطيع ابن الحجرية أن يتغلغل وينصهر في مناطق اليمن المختلفة، بكل سهولة ويسر.
أينما حلّ أبناء الحجرية، تدبّ الحياة، خبز طاوة، خمير، شاهي حليب، صحف الخ. أول من يفتح دكانه في الصباح، وآخر من يغلقه في الليل. تجدهم على هذه الحال من الحفاظ على الشخصية المحلية، داخل قراهم وفي صنعاء وفي جدة وبرمنجهام والقاهرة.
هم أقصى الجنوب ولكنهم شمال، وهم شمال ولكنهم في عمق الجنوب، لهذا لم يستطيعوا إلا أن يكونوا مشتركاً وطنياً يعمل على تعزيز لحمة المجتمع اليمني. من هنا نعرف لماذا صار الوطن كله يردد نشيداً جمهورياً ألف كلماته ولحنها اثنان من أبناء الحجرية.
قال لي ذات يوم، أحد الحضارم إنه زار بريطانيا ودعاه أحد أبناء الحجرية ممن هاجر آباؤهم قبل عقود من الزمن ضمن البحارة القدامى الذين عملوا مع الانجليز في عدن. قال عبدالله باوزير: “لم أكن أعرف إلى يومها، المعنى الكبير لليمن إلا حينما أكملنا الغداء، وفتح ذلك الرجل التعزي أغنية مدارب السيل. كان يسمعها بخشوع، ويسكب دموعه كالمطر”.
أينما يصل ابن الحجرية فإنه يحافظ على عاداته وتقاليده. يظل متشبتاً بالأرض. يحفظ الأمثال الشعبية عن ظهر قلب. يستمع إلى الملالاة ويتغدى مع أبنائه على اللبن والوزف.
ثمة عقلية بنائية مؤسسية تكتنز خبرة حضارية يتم استحضارها بلا عناء. وكلما ارتفع ابن الحجرية إلى مستوى جديد، علمي أو إداري أو مادي، يكون تماما عند شروط ذلك المستوى في الأغلب الأعم، بلا رهبة أو دهشة ولا تعالٍ أو تصنّع أو تنكر لهوية العاس والوزف، والمعوز المطرّز والدسمال الأنيق.
يبدأون من الصفر ويصلون إلى القمة، وإذا ارتكس أحدهم؛ يبدأ ثانية من الصفر بلا أي حرج. لا يطالبه المجتمع بالقفز، بل يحثه على أن يؤثث حياته خطوة خطوة، لذا تجد ابن الحجرية يصل إلى صنعاء أو عدن، طالباً مجتهداً يعيش على الكفاف، وبعد أن يحصل على وظيفة يبدأ بالبحث عن شريكة الحياة ويسكنان معاً في غرفة بسيطة تتوسع في العام الذي يليه إلى غرفتين. وهكذا. (سائق الشاحنة الذي أبهرني قبل ٢٨ عاما في شركة نانا، وجدته بعد سنوات مديرا لأحد فروع التسويق في مجموعة شركات هائل سعيد أنعم).
في تعز عموما، والحجرية خصوصا، ثمة نفور عام من التطرف والتزمت، وثمة سخرية حادة من الطبقية والتعالي والتكبر. إلى ذلك، ليس ثمة حروب ولا ثارات بين مناطق وقبائل الحجرية. إنه نموذج للمجتمع اليمني الذي حرص على أن يكون بمعزل عن كل تأثيرات الإمامة التي تقتل الذات اليمنية، وهنا مكمن السر الكبير.
لا يعتمد ابن الحجرية على الفيد أو على الالتفاف، يقنع بالمحصول ويحرص على أن ينمّي دخله بشطارته واجتهاده، وليس بالاحتيال. وبالتالي ففيها أقل نسبة تحاسد، الكل يساعد الجميع. وتكثر في هذا المجتمع عبارة “الله يفتح عليه”، وآخرون يترجمونها على سبيل الدعابة “عبده قاسم ربي رزقه”.
ونتيجة لتراكم الشواهد في التعاون والتآزر، ثمة من ينظر إلى الحجرية وكأنها مجتمع يُؤْثر نفسه، وهي نظرة ليست صحيحة. إذ كثير من النوابغ من كل مناطق اليمن تتلمذوا على يد جنود مجهولين من الحجرية، صنعوا المعروف وناموا بسلام.
الحجرية، بوصفها الجزء المجتمعي الأكثر تعافيا إزاء مفاهيم الرزق والعمل والحرية والجدارة، ليست سوى نموذج لليمن الكبير بدون الإمامة. يمن يقدّس العمل ويقدّر الإبداع ويحرص على التعلم. يمن يتحول إلى ورشة عمل كبرى لا تسمع فيها إلا أصوات المناجل والمطارق تماما كما كنت أسمعها في ورشة السامعي للسمكرة، بالصافية، وأنا مخزّن على حجرة بلوك وكأنها أريكة من ريش النعام.
ولهذا كله، أصبحت الحجرية مضرب المثل، وبها توصف كل منطقة في اليمن يكثر فيها عدد العمال والمتعلمين، فيقال مثلاً، إن وصاب حُجرية المناطق الوسطى، ويافع حجرية الجنوب، وحجور حجرية حجة، ومراد حجرية مأرب، ورازح حجرية صعدة، وغيل باوزير حجرية حضرموت.
تكثر في الحجرية نسبة الذين تبدأ أسماؤهم بـ”عبد”، مثال عبدالعليم، وعبدالقيوم، عبدالواسع، عبدالغني، وذلك في رسالة أنهم عباد لله وحده وليس لغيره. ولهذا فإن للإمامة الاستعبادية ذكريات مأساوية في مجتمع الحجرية، ومن هنا جاءت الكثير من المقولات المتوارثة، مثل “قدَس نجَس”. لأنهم اغتالوا مندوب الإمام بعد إكرامهم له، بسبب أنه طلب منهم “فراش النوم”!، فقال الإمام معلقا: “قدس نجَس، آخر آية من عبَس”.
تقوم الإمامة العنصرية المتعفنة على احتقار المِهن، والمهن هي الحياة، وهي رأس مال الحجرية الأول. وبالمثل تقوم الإمامة على الطبقية ولا طبقية في الحجرية. لذا تجد أهل الحجرية رغم كونهم قبائل إلا أنهم تخلّوا عن جعل التعصب القبلي وسيلة للترزق أو التكسب. لقد اتجهوا نحو منافذ التخلق الطبيعية: العمل، التعلم، الغربة، الإبداع، الكفاح، التجارة. ولهذا كانت الجمهورية، بشكل ما، ثمرةً حُجرية، وكان أبناؤها في طليعة المستفيدين من قيام النظام الجمهوري وهم من أرضعوه فكراً ومالاً بعدما نالوا قسطاً من التعلم في عدن أيام الانجليز.
ومعروف أن شرارة الحركة الوطنية في الثلث الأول من القرن العشرين انطلقت من داخل ذبحان. ويكفي أن نتأمل مقولة حكيم الثورة حسن الدعيس رحمه الله، والتي قال فيها إن نجاح الحركة الوطنية، موزّع كالتالي:
واحد بالمائة جهود الأحرار، و٣ بالمائة دعم أبناء الحجرية، و96 بالمائة أخطاء الإمامة.
أبناء الحجرية يعلمون أكثر من غيرهم أن عودة الإمامة هي أكبر خطر يتهدد اليمن عموماً والحجرية خصوصاً، لأن الإمامة نقيض للدولة. تعمل الآلة الكهنوتية الإمامية على تحطيم سلالم الصعود الطبيعية وسد منافذ العيش وإغلاق حجرات التعلم وتهييج المناطقية. ومن هنا كان أبناء الحجرية في طليعة المدافعين عن الدولة والجمهورية، منذ ٢٠٠٤ وحتى الآن. حافظوا على منطقتهم بآلاف الشهداء، وتوزعوا في كل جبهات البطولة والكرامة من باقم إلى مأرب، إلى المخا، لدفن المجازفة الإمامية الأخيرة.
هؤلاء الذين كان البعض يظن أنهم ليسوا أهل عسكرة، بدوْا أشاوس وصناديد لا نظير لهم. إن القصص القادمة عن بطولات قرية واحدة في مديرية جبل حبشي تكفي لأن يقف الوطن كله احتراماً وإجلالاً لأبناء هذه الأرض، الذين ما يزالون إلى اليوم يمثلون سداً منيعاً أمام زحف الإمامة، وماكينة عبقرية متفاهمة تعيد الإمامة إلى مقابر التاريخ. ويبدو واضحا أن الإمامة فكرت ببدائل أخرى بعد أن يئست من دخول الحجرية بقوة السلاح، فحاولت إثارة النعرات وإشعال أهواء الزعامة لدى بعض رموز الحجرية، بطريقة تدفعهم لإحراق أنفسهم وليس لإثبات زعامتهم، إذ يفشل ابن الحجرية حينما يسعى إلى فرض مكانته الاجتماعية وحضوره السياسي، على طريقة العصيمات أو بني حشيش. هي خصائص لا تتغير، بها تميّز أبناء هذه المنطقة، وبغيرها يصبحون كالآخرين.
في الحجرية وحدها، تجد أن الحزبية لم تكن سُمّاً زعافاً يمزّق النسيج الاجتماعي. قرية واحدة في شرجب منها ثلاثة أمناء عموم أحزاب، وجميعهم يفطرون على مائدة واحدة. لكن الحوثية اليوم تريد أن تجعل الحزبية أداة هدم للحجرية، والأمر ينطوي على خطورة أكبر، حينما أصبح لبعض الأحزاب امتدادات عسكرية، يحاول الكهنوت تحريضها ضد بعض.
وبسبب الأهمية الاستراتيجية للحجرية باعتبارها حامية باب المندب، وبوصفها “ريف عدن”، وزيْت الجمهورية، تتسابق المشاريع المعادية في الوقت الحاضر، مستهدفة الحجرية وبطريقة يقف لها وعيُ أبناء المنطقة بالمرصاد.
في الحجرية يكمن الحامل الجيني لليمن المنشود، إنها النواة الصلبة التي تخترِق ولا يخشى عليها من أي اختراق. لا ينبغي أن تكون إلا بحجم اليمن الكبير بكل أنحائه وأشواقه وقبائله ولهجاته. إنها اليوم، الشرنقة التي يستعيد فيها الكائن اليمني دورته من جديد، وحاليا تحتضن مدينة التُربة ندوات فكرية يومية في كل مقيل تمعن في دراسة وتعرية الزيف الإمامي، وتبتكر الحلول لإسقاط الكهنوت بالضربة القاضية. وأول هذه الحلول أن تستعيد كل هامات الحجرية أقدريتها على احتواء “الجميع” وصنع المفاجأة. ول عبدالهادي العزعزي أن يعرعر بعدها لكل مرتجف لا يدرك معنى اليمن.
نقلا من صفحة الكاتب على الفيسبوك