
اليمن... بنية العنف واستخداماتها
ترتبط حالة العنف بالظرفية، أي إنها استثناء لا قاعدة، بحيث يمكن تعطيلها، وبالتالي وقف آلتها القهرية، بيد أن حالة العنف في اليمن باتت اليوم أكثر جذريةً، فإلى جانب أنها لم تعد ترتبط بوضع استثنائي يمكن تعليق قوانينه تبعاً لاستقرار بيئة الصراع ومقتضيات تطبيع الحياة اليومية، بحيث أصبح العنف بُنية متأصّلة تكرّس آلة القمع، مقابل إعاقة الشارع اليمني من التحرّر من قيود القهر والإخضاع.
تقتضي وظيفة السلطات، وإن كانت سلطات أمر واقع، تطبيع الحياة اليومية في المقام الأول، والذي يبدأ من تعليق الظروف الاستثنائية التي تعمل على تكريس بيئة الحظر والتقييد والمصادرة، سواء بأطرها القانونية التي يجري استدعاؤها أو اختلاقها لتكثيف إجراءات الحظر والتقييد، أو بمظاهرها التي تهدف إلى تعطيل مظاهر الحياة الطبيعية، بيد أن سلطات الحرب في اليمن استثمرت استقرار بيئة الصراع بإدامة حالة الطوارئ والظروف الاستثنائية لإعاقة فرص تطبيع الحياة، من تقييد الحق في التنقل إلى منع الأنشطة المجتمعية والسياسية، ومصادرة الفضاء العام والخاص لصالحها والتعدّي على الحرّيات الشخصية. ومن ثم أتاحت لنفسها تعويم العنف واستخدامه أداة لاستمرار آلية القمع وإرهاب المجتمع وإخضاعه، وتعتمل هذه المنظومة المركبة في مستويات نشطة، تستثمرها سلطات الحرب، بدءاً بتوظيف أجهزة الدولة ومواردها لتكريس العنف إلى إطلاق يد الفئات الخارجة عن القانون، سواء التي نبعت من الهامش الاجتماعي أو التي صعدت بمقتضى تغير مراكز النفوذ بين القوى المهيمنة وتحالفاتها لممارسة عنفها تجاه المجتمع. يضاف إلى ذلك أن سلطات الحرب استثمرت تداعيات الأزمة الاقتصادية بتصعيد عنف مجتمعي موجّه مصاحب لعنف السلطات نفسها، وشبكاتها، وذلك بتوسيع قنوات نهب المال العام والخاص والتعدّي على حقوق المواطنين وأملاكهم. ومع أن استراتيجية العنف والإرهاب ظلت سلاح سلطات الحرب في إدارة المجتمعات الخاضعة لها، فإن صعود التيارات اليمينية المتطرّفة في المشهد السياسي الدولي والإقليمي غذّى في اليمن، أسوة بغيره من بلدان الحروب، مظاهر العنف ومنحه ديناميكيات جديدة، سواء باستيراد أدوات النماذج السياسية الأصولية واستخدامها في قمع المجتمع، أو بالمراهنة على استمرار إفلاتها من العقاب. ومن جهة أخرى، عزل تصدّر الأولويات الدولية والإقليمية أزمات سياسية أكثر أهمية من الأزمة اليمنية اليمن سياسياً عن اهتمام العالم، بحيث أتاح ذلك لسلطات الحرب وشبكاتها المضي في مضاعفة انتهاكاتها في حقّ اليمنيين، كما أن انسداد مسار العملية السياسية في اليمن مقابل تصاعد مخاطر التوترات الدولية والإقليمية التي قد تدفع مستقبلاً إلى تصعيد الحرب في اليمن دفع الفرقاء إلى تعزيز آلية القمع في المجتمعات التي تحكمها، بدوافع أمنية وأيضاً اقتصادية.
بالنسبة لجماعة الحوثي، تتضافر منظومتها وأيضاً منظومة الدولة التي ورثتها في توليد حالة مستمرّة ودائمة من العنف الموجّه ضد المجتمع، فإلى جانب عنف الجماعة، كقوى متغلّبة، فإنها ربطت شرطها السلطوي باستخدام الوظائف الضبطية والأمنية لغايات قمعية، من خلال أجهزتها الأمنية وأجهزة الدولة بهدف إرهاب المجتمع وإخضاعه، كما حوّلت استخداماتها قانون الطوارئ، وإن بشكل غير معلن، إلى ناظم لعلاقتها بالمجتمع، بحيث جعلته وضعاً دائماً يستوجب استمرار بيئة الحظر والتقييد والتعدّي على الحرّيات الشخصية، وممارسة الانتهاكات، من منع الأنشطة المجتمعية والسياسية إلى تعليق مظاهر تطبيع الحياة اليومية، بغرض تقويض فرص تبلور حراك مجتمعي يعبّر عن مصالح المجتمع، والأهم ضمان استمرار تعويم العنف لمضاعفة آلتها القمعية. وبموازاة انفرادها بموارد الدولة، تهدف الجماعة من خلال نقل التزاماتها الاقتصادية إلى خصومها السياسيين إلى التنصّل من مسؤوليتها، مقابل وضع أي حراك مجتمع مطلبي تحت دائرة التجريم ومن ثم العقاب. وفي هذه البنية القسرية لسلطة قائمة على العنف، يبقى القمع المعادل الموضوعي لتثبيت سلطتها، وأيضا لخنق قنوات الضغط النابعة من المجتمع في شكلها الحقوقي والمطلبي، من المطالب الاقتصادية إلى الحرّيات الشخصية، وتحرير المجال العام والخاص من تقييداتها.
وإذا كانت موجات القمع ظلت ترتبط بمستويات المخاطر والتحدّيات التي تواجهها الجماعة (الحوثي)، سواء بالنسبة لبنية سلطتها القائمة على ضرورة تثبيت ولاءات القوى المتحالفة معها، أو ضمان الاستقرار في النطاقات القبلية المناوئة لها، فإن القمع سلاحها الفاعل لكبت حاجات المجتمع والسيطرة على أي توتّرات ناشئة عن مطالب اقتصادية ومظلوميات اجتماعية. ومع أن حروب إسنادها المقاومة الإسلامية في قطاع غزّة جعلها تتكئ على مفاعيل السياسة الاستقطابية لتثبيت سلطتها، والأهم الهروب من التزاماتها الاقتصادية عبر استثمار حربها ضد "العدو الإسرائيلي" لإعادة توجيه المجتمع في سياقٍ بعيد عن مطالبه المجتمعية والإنسانية، فإن تجمّد حروب الإسناد في الوقت الحالي، وأيضا التحوّلات الدولية والإقليمية الراهنة، ضاعف من مستويات الضغط عليها باعتبارها سلطة، وبشكل خاص التحدّيات الاقتصادية التي تواجهها من نقص الموارد إلى توقف المساعدات الإنسانية بعد موجات اعتقالها العاملين في المنظمات الدولية، مقابل استمرار انسداد الأفق السياسي، ومخاطر التصعيد العسكري في اليمن جعلها تلجأ إلى الخيار الأمني والقمعي كالعادة، لتثبيت سلطتها، ومن ثم إرهاب المجتمع. فإلى جانب إنشاء جهاز أمني جديد لمراقبة التفاعلات الاجتماعية في جانبها المطلبي، وتقييد حرّية التعبير وتنفيذ اعتقالات ومداهمات باسم الحرب الناعمة، فإنها نفّذت حملات عسكرية في مناطق القبائل لاستعراض القوة، وأيضا لإخضاعها. وبموازه ذلك، واشتغالاً أيضاً على آلية القمع في إدارة المجتمع، فإن وقف مفاوضات تبادل السجناء والمعتقلين بين فرقاء الصراع لا يؤبّد معاناتهم الإنسانية فقط، بل يجعل الجماعة تمضي في سياسة استثمار ورقة المعتقلين، وتحويلها إلى مورد مالي إضافي، من اقتصاد الرهائن إلى اقتصاد الفدية، وفي غياب أي مستوى مجتمعي أو سياسي يحجّم انتهاكاتها، فإن ذلك يعني استمرار إطلاق يدها لقمع المجتمع وابتزازه.
في المقابل، تستقي حالة العنف في المناطق المحرّرة ديناميكيتها من ضعف الدولة وانقسام أجهزتها بين القوى المتنافسة، وأيضا تعدّد القوى السياسية والعسكرية التي تحرّك أداة القمع، إلى جانب استخدامه وظيفياً لتثبيت مجال هيمنتها. يضاف إلى ذلك استخدام "الأوضاع الاستثنائية" في سياق تعليق القانون اليمني الذي ينظّم العلاقة بين السلطة والمجتمع، مقابل استدامة وضع استثنائي تستثمره لتعويم حالة العنف وتمرير انتهاكاتها ضد المجتمع. ومع أن تعدّد القوى السياسية أتاح للمجتمع، إلى حد كبير، مجالاً للتعبير عن حقوقه المطلبية، بشقها الاقتصادي والخدمي، بما في ذلك مراقبة اختلالات أداء السلطات وكشف قصورها، وانتهاكاتها ضد المواطنين، فإن مستويات التعبير والحراك المجتمعي والسياسي تختلف تبعاً للسلطات المحلية، وأيضا للتحدّيات التي تواجهها، بيد أن الأزمات الاقتصادية ظلت، إلى حد كبير، بؤرة التوتّر الدائمة التي تستوجب بالنسبة للسلطات تصعيد العنف، وأيضا تعزيز آليتها القمعية، مقابل استمرار فسادها ونهبها المال العام وموارد الدولة ومؤسّساتها، إذ إن انهيار العملة المحلية وفشل الحكومة المعترف بها دوليا في وقف الانهيار الاقتصادي، وأيضا تثبيت أسعار المواد الغذائية، وإن نقل الأزمة الاقتصادية إلى سلطة المجلس الرئاسي، بمنظوماتها وقواها السياسية المتعدّدة، فإن تشابك مسؤولية الفشل، والخوف بالتالي من أي حراك مطلبي يهدّد مصالح المتنفذين وقوى السلطة، جعل أجهزتها، على اختلافها، تصعّد من إجراءاتها القمعية وسيلة للسيطرة على المجتمع وإخضاعه، سواء المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يحكم المناطق الجنوبية، أو السلطة المحلية في مدينة تعز، الموالية لحزب التجمّع اليمني للإصلاح، ففي حين اعتقلت السلطات الأمنية التابعة للمجلس في عدن عشرات من المتظاهرين، على خلفية الاحتجاج على انهيار الوضع الاقتصادي، قيّدت السلطة الأمنية في تعز، التي باتت تدير المدينة، الحقّ في التظاهر ضد تردّي الأوضاع الاقتصادية من خلال استخدام قانون تنظيم التظاهر والاحتجاجات في اليمن الذي يعود إلى أكثر من عقدين، تحت مزاعم خطورة الأوضاع "الاستثنائية" التي تعيشها المدينة، والتهديدات الأمنية، وهو ما يشكل ردّة سياسية لقوى كانت جزءاً من الثورة ضد طغيان الأنظمة، وتقييداً لحراك الشارع وإخضاعه.
في واقع يمني يستديم عنف سلطات الحرب وشبكاتها، باعتباره شرط الحياة الوحيد، الذي يعني استمرار تعليق تطبيع الحياة اليومية، مقابل تنظيم فضاءات الحظر والتقييد والمصادرة، وتكريس آلة القمع في حقّ اليمنيين، وفي واقع كهذا من الضرورة توليد حراك مجتمعي يعيد ضبط العلاقة ما بين المجتمع والسلطات، يكسر بنية العنف المستقرة، وينتزع حقوق اليمنيين المصادرة، بيد أنه وفي ظل تسيس الشارع اليمني وتطييفه، وأيضاً إنهاكه عبر دورات الحروب والأزمات الاقتصادية، فإن نضوج قوة موضوعية على الأرض قد يتطلب زمناً طويلاً لمقاومة القهر والحرمان وانتزاع حقّ اليمنيين بحياة إنسانية كريمة.
العربي الجديد