عدن... عاصمة متنازعة

في مدينةٍ تتنازعها هوياتٌ سياسيةٌ متناقضةٌ كمدينة عدن، تطغى مظاهر التنافس السلطوي ومجالاته على أوجه الحياة المختلفة، فإلى جانب السلطة التوافقية، تهيمن سلطة الأمر الواقع على مدينة عدن، الأمر الذي أنتج مستوياتٍ من الصراع انعكست على إدارة حياة المواطنين والحياة العامة. يضاف إلى ذلك أن مدينة عدن اجتماعياً وعمرانياً واقتصادياً تتعرض لضغط متغيرات مصاحبة لتحولها إلى عاصمة مؤقتة، والتي تمارس هي الأخرى تأثيرها على المدينة وعلى المجتمع.


تتحرّك في مدينة عدن ديناميكيات متصارعة تفرض طابعاً متجاذباً على المدينة، إذ تحضر سلطات تختلف في هويتها السياسية وكياناتها وأجهزتها وقوانينها، وإن اختلفت فاعليتها، إلا أنها تفرض تأثيرها على حياة المواطنين وعلى المجال العام، فمن جهةٍ، أدّى استقرار السلطة التوافقية في مدينة عدن ممثلة سلطة المجلس الرئاسي إلى تغيير المعادلة المحلية، حيث تحوّلت المدينة إلى مركز لنشاط المجلس الرئاسي، كسلطة توافقية، إلى جانب محاولة فرض مدينة عدن كعاصمة سياسية للدول الموحّدة. ومن جهة ثانية، يهيمن المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم من الإمارات، على مدينة عدن، ويحرص على استمرار جعل عدن عاصمة سياسية لدولة الجنوب، إضافة إلى رأس السلطة المحلية، التي تشكّل سلطة موازية للمجلس الانتقالي في إدارة المدينة وفرض هويتها وقوانينها، فيما تحضُر الحكومة المعترف بها كسلطة تنفيذية تتنازعها سلطة الرئاسي والانتقالي. وفي حين تتباين مراكز ثقل هذه السلطات سياسياً وعسكرياً وإدارياً ومجتمعياً أيضاً، إلى جانب اختلاف أدواتها، وطرقها في فرض هيمنتها، فإن هذا الواقع فرض جملةً من التعقيدات وأدّى إلى تقويض فرص تحوّل عدن إلى عاصمة سياسية موحّدة، ناهيك عن تطبيع الحياة اليومية وتحسين حياة المواطنين. فإضافة إلى تصعيد صراع سلطوي على مستوى إدارة مدينة عدن أدّى إلى ازدواج القرارات وتضارب القوانين التي تدير حياة المواطنين، فإنه أنتج صراعاً هوياتياً امتدّ إلى المواطنة، إلى جانب تحويل عدن إلى ساحة لإدارة التنافس، سواء من الوكلاء أو حلفائهم الإقليميين.


باعتباره رئيس المجلس الرئاسي، يشكّل تطبيع الأوضاع السياسية في مدينة عدن وفرضها عاصمة للسلطة التوافقية ضرورة بالنسبة لرشاد العليمي، فإلى جانب تثبيت سيادته الرمزية رئيس سلطةٍ يمارس نشاطه على الأرض، أي في عاصمة سلطته، فإن ذلك سيمكّنه من ضمان استمراريته رئيساً للمجلس، وذلك بتكريس حضور أجهزة السلطة التوافقية من خلال مؤسّسات الدولة، كما أن تثبيت مركزه في مدينة عدن، رئيساً لسلطة المجلس الرئاسي، يعني تقييد مشاريع القوى الجنوبية الانفصالية الموالية للإمارات. ومع أن الواقع السياسي، إلى جانب موازين القوة في مدينة عدن، قد لا تمكّن الرئيس العليمي، باعتباره مركز نفوذ يمثل السعودية، من تحسين شروطه، فإنه يراهن على دعم المجتمع الدولي لتطبيع الأوضاع في مدينة عدن وتمكينه من فرض سلطته، إضافة إلى استقرار عمل الحكومة وفرض كيان مؤسّسات الدولة، إلى جانب القرارات الرئاسية التي قد تدفع إلى تثبيت وضع عدن عاصمة سياسية للمجلس الرئاسي، من مطالبة المنظمّات الدولية والبعثات الدبلوماسية بممارسة نشاطها في مدينة عدن، أي نقل مركز السلطة من صنعاء إلى عدن، إلى استقرار طبقة سياسية وافدة موالية له، تعمل، هي الأخرى، لتوليد حاضنة شعبية، أو على الأقل فرض نوع من الثقل المجتمعي. فضلا عن ذلك، وهو الأهم، ضمان دعم حليفه السعودي عسكرياً، من خلال قوة الحماية الرئاسية التي شكّلتها السعودية. واقتصاديا، بتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار في مدينة عدن، بحيث تدفع إلى تثبيت سلطته، وتكريس حضور حليفه الإقليمي. ومع أن هذه الأدوات مكّنت رئيس المجلس الرئاسي من فرض شكلٍ من الحضور السياسي اللافت في مدينة عدن، فإن هناك تحدّيات أكثر جذرية تعيق تثبيت مركزه السياسي في العاصمة المؤقتة.


إذا كانت السرديات التاريخية قد فرضت مدينة عدن في معادلة إحياء الدولة الجنوبية بالنسبة للمجلس الانتقالي، فإن تثبيتها عاصمة سياسية ومنطقة مغلقة هو الخيار الوحيد لضمان سيطرته على جنوب اليمن، إذ إن قبول المجلس الانتقالي بممارسة السلطة التوافقية نشاطها في مدينة عدن، باعتباره واقعاً مؤقتاً، فرضته الضرورة السياسية لا أكثر. ومن جهة ثانية، لا تقيّد هذه الضرورة هيمنة "الانتقالي" على مدينة عدن، كسلطة أمر واقع، بل تمنحه أوراقاً عديدة لإدارة سلطته، من مستويين: مستوى أعلى كونه طرفاً سياسياً في سلطة المجلس الرئاسي، حيث يمكّنه ذلك من تجذير هيمنته على مؤسّسات الدولة في عدن، إلى جانب استثمار موقعه في سلطة المجلس الرئاسي بمراقبة أدائها، وتعطيل أيّ قراراتٍ رئاسيةٍ تتعارض مع مشاريعه الاستقلالية. ومن مستوى آخر، العمل كقوة مستقلة بكيانه وأجهزته الأمنية والعسكرية التي تثبت سلطته وتوفر له الثقل والحماية، مقابل فرض نفسه ممثلاً وحيداً للدولة الجنوبية، وعاصمتها السياسية عدن، إلى جانب فرض سيطرته على حياة المواطنين، وذلك بتمرير قوانين مختلفة من تقييد النشاط المديني والمجتمعي إلى إدارة المجال العام، إضافة إلى فرض هويته السياسية على مدينة عدن، من خلال اكتساح الفضاء العام وصبغه برموزه السياسية وأعلام الدولة التشطيرية، مقابل منع أي رموزٍ سيادية لسلطة "الرئاسي". فضلا عن تثبيت حضور الإمارات سياسيا واقتصاديا. في المقابل، تعمل الإمارات على تعزيز قبضة وكيلها على مدينة عدن، إلى جانب ضمان حضورها، من خلال استراتيجيتها التقليدية بوسائل ذكية وبأقل كلفة، ففي حين عمَد رئيس السلطة المحلية في مدينة عدن الموالي للمجلس الانتقالي أخيراً إلى تغيير أسماء الشوارع واستبدالها بأسماء قيادات الدولة الإماراتية، ما يعني فرض هويةٍ طارئةٍ على المدينة، فقد موّلت الإمارات استثمارات اقتصادية، من بناء فنادق وشركات تجارية، إلى مشروع الطاقة الشمسية لتوليد الطاقة الكهربائية، بحيث تضمن تكريس حضورها وإدارة مستوياتٍ من الاستقطاب السياسي والمجتمعي، إلى جانب زحزحة نفوذ منافسها السعودي في مدينة عدن.


تكمن المفارقة في مدينة عدن ليس فقط في استمرار تجاذب قوى السلطة على هوية المدينة، وموقعها في معادلة السلطة، بل في كون أبنائها يدفعون كلفة هذا الصراع، وبشكل يومي، من استمرار الانفلات الأمني، واقتتال القوى الأمنية والعسكرية، إلى غياب سلطة فعلية واحدة تدير الحياة اليومية، كما أن امتيازات التحوّلات الاقتصادية التي تشهدها المدينة لا تصبّ في صالح المواطنين، إذ إن استثمارات الوكلاء والمتدخّلين والطبقات الصاعدة لا تتركّز في بناء بنية تحتية أو مشاريع دائمة تستهدف الطبقات الفقيرة أو المفقرة، بل مظاهر عمرانية كبناء المولات التجارية والفنادق السياحية، التي تعني استهداف الطبقات الغنية. كما أن استقرار نخب السلطة في مدينة عدن كمنطقة جاذبة أدّى إلى تغيير نمط الحياة في المدينة، من فرض عمرانها الخاص وأنشطتها، وأنديتها الترفيهية، فضلا عن استغلالها السلطة من نهب الأراضي وردم البحر إلى تشكيل قوة عسكرية تمارس عسفها على المواطنين. وإذا كانت التحوّلات الحالية قد أنتجت واقعاً جديداً فهو تسييج مناطق الطبقة المرفهة، إلى جانب مقارّ المنظمّات الدولية والبعثات الدبلوماسية التي تسيّجها خرسانات إسمنتية مقابل استمرار توسّع أحزمة الفقر في مدينة عدن، حيث يعيش معظم المواطنين بؤسهم الخاص.


العربي الجديد