اليمن... وجه جديد لأجندة قديمة
يأتي تعيين أحمد عوض بن مبارك رئيسا للحكومة اليمنية ضرورة فرضتها عوامل عديدة، من استمرار تعطيل عمل الحكومة إلى تصاعد الخلاف بين قوى سلطة المجلس الرئاسي، ومع أن قرار التعيين لم يأت في سياق توافقي بين الفرقاء، وإنما فرضه حلفاؤهم الإقليميون، فإن هناك من يعوّل على أن يؤدّي هذا التغيير إلى اصطفاف سياسي محلي يدفع إلى تحسين أداء الحكومة، إلا أن أزماتها الذاتية، وطبيعة علاقتها مع سلطة المجلس الرئاسي، إلى جانب دور حلفائهم الإقليميين، تبقى المحكّ في قدرتها على تجاوز إرث من الفشل والفساد.
أفضى انتقال القرار السياسي للدول المتدخّلة في اليمن إلى جملة من التشوّهات طاولت منظومة سلطة حلفائها وعلاقتهم البينية، إلى إدارة الحكومة ومؤسّسات الدولة، إذ أصبحت الدول المتدخلة هي التي تحدّد معايير التعيينات في مناصب الدولة، بحيث تصعد القيادات الموالية لها، سواء من القوى السياسية المتحالفة معها أو من القوى الصاعدة. وإذا كان المعسكر القديم من النخب المحلية ظلّ قوة إسناد سياسي وعسكري للمتدخلين، فإن النخب الشبابية مثلت خيارا أفضل بالنسبة لها، فإلى جانب ارتهانها السياسي للمتدخلين، فإن افتقارها للخبرة والتجربة يجعلها أكثر طواعية في تنفيذ أجنداتها، بحيث صعدتها إلى أعلى مناصب الدولة، فمع اختلاف الظروف السياسية التي صاحبت تعيين عوض بن مبارك رئيساً للحكومة عن تعيين سلفه معين عبدالملك، فإن وصولهما إلى أعلى منصب قيادي في الدولة عكس طبيعة إدارة المتدخّلين لسلطة حلفائهم وخياراتهم في تصعيد أدواتٍ جديدةٍ في كل مرحلة، وإن تماثلا من حيث الخلفية السياسية بالانتماء لحزب الوطن إلى حداثة تجربتهما في الشأن العام، إلا أن هذه المزايا، إن صحّ اعتبارها مزايا، لا تؤدّي إلى تحسين أداء الحكومة، فإضافة إلى غياب التوافق السعودي - الإماراتي الذي مثل عاملاً داعماً لاستمرار رئيس الوزراء السابق مع تنافسهم في اليمن والإقليم، ما يضيف تعقيداً على أداء الحكومة، ورئيس وزرائها الجديد، فإن التعيين، وإن قُصدت منه إزالة الخلاف بين قوى المجلس على منصب رئيس الحكومة، فإنه لم يأت في إطار معالجة حقيقية لأزماتها، وإنما بمقتضى خيارات أجندة طرفٍ إقليمي لترضية قوى محلية.
شكّلت سياسة المحاصصة القائمة على التوازن في التمثيل الوظيفي سياسياً وجغرافياً إحدى وسائل المعالجات التي اتخذها المتدخلون لإدارة سلطة وكلائهم في اليمن، وفي حين ظلّ رئيس الوزراء السابق مقيّدا بهذه التوازنات على مستوى إدارة الحكومة وسياساتها العامة، فإن انتماءه الجغرافي أكثر من فشله في إدارة الحكومة ظلّ هو جوهر الخلاف بين قوى سلطة المجلس الرئاسي، وساهم، من ضمن أسباب عديدة، في تعطيل الحكومة، إذ إن انتماء ترويكا السلطة التنفيذية والتشريعية والرئاسية لمدينة تعز أخلّ بسياسة التمثيل الجغرافي في منظومة سلطة المجلس الرئاسي. ومع صعوبة تغيير رأس السلطات الأخرى، ظل استمرار رئيس الحكومة عاملاً في تزكية الخلافات البينية، خصوصا القوى الجنوبية من المجلس الانتقالي إلى القوى السلفية التي وجدت في ذلك استئثار منطقة شمالية على حسابها، لذلك وجدت السعودية أن تعيين رئيس وزراء جنوبي في هذه المرحلة سيعمل على تخفيض تصعيد القوى الجنوبية الموالية للإمارات ضد الحكومة أو على الأقل احتوائها سياسياً، لذلك شكل عوض بن مبارك خيارا مناسبا بالنسبة لها.
ومع أن الإمارات لم تعارض تعيين رئيس الوزراء الجديد، فإن تعيينه يأتي في إطار إدارة السعودية التوازنات في سلطة وكلائها، من امتصاص غضب بعض القوى الجنوبية، إلى تثبيت القوى الموالية لها في المجلس الرئاسي. فمن جهةٍ، سيثبت تعيين رئيس وزراء جنوبي توزيع المحاصصة الجغرافية في منظومة المجلس الرئاسي ومن ثم ترضية القوى الجنوبية: رئيس شمالي مقابل رئيس وزراء جنوبي، ومن ثم كسب تأييد المجلس الانتقالي الجنوبي، إلى جانب محاولة كبح تصعيده السياسي والعسكري في مدينة حضرموت، ومطالبته بطرد قوات الوطن التابعة للسعودية. ومن جهة ثانية، سيمكّن تعيين رئيس وزراء جنوبي خارج التحالفات السياسية، والأحزاب المهيمنة، السعودية من ضمان ترتيب الوضع السياسي لرئيس المجلس الرئاسي، رشاد العليمي، أقوى حلفائها واستقرار سلطته، وذلك بتحجيم الخلافات بين قوى المجلس على الحكومة، ما سيؤدّي إلى تفعيل دورها، بيد أن هذه الترضيات في اختيار منصب رئيس الحكومة على حساب الفاعلية والمؤهلات، وقبلها حلحلة أزمة الحكومة، لا تؤدّي إلى تثبيت سلطتها وتمكينها من إدارة الدولة، بل تجعلها عرضة لتنافساتها، كما أنها لا تسهم في تجسير أزمة الثقة في أطر المجلس، ناهيك بتضارب الصلاحيات بين المجلس والحكومة، فضلا عن استمرار الاستقطابات المناطقية والجهوية في أطر سلطة المجلس الرئاسي التي تعمل كديناميات محرّكة للتعطيل، إضافة إلى التحدّيات التي تواجهها الحكومة، سياسيا واقتصاديا.
العلاقة بين الحكومة والسلطة السياسية تكاملية وظيفيا، إذ تضطلع الحكومة باعتبارها السلطة التنفيذية بتنفيذ السياسات العامة للدولة، بما في ذلك إدارة مؤسّساتها وأجهزتها، وقبلها سيطرتها على الموارد الاقتصادية، بيد أن هرمية السلطة في المجلس الرئاسي المكوّن من قوى سياسية متعدّدة ومتنافسة أدّت إلى الإخلال بالأدوار الوظيفية بينها وبين الحكومة، ومن ثم أدّت إلى تعطيلها، فإلى جانب احتكار قوى المجلس الرئاسي صلاحيات تحديد الوزراء في الحكومة الذين يمثلونهم سياسيا، مقابل تعطيل حقّ رئيس الوزراء في اختيار فريقه، وما يعنيه ذلك من تقييد أداء الحكومة، فإن السلطات المتعددة في المجلس الرئاسي، ممثلا بنوّاب الرئيس أدّت إلى تضارب الصلاحيات بينهم وبين رئيس الحكومة، سواء على مستوى إدارة مؤسّسات الدولة وأجهزتها، أو في تنازع القرارات على التعيين وغياب استراتيجية موحّدة للحكومة، إذ أدى طغيان سلطات أعضاء المجلس إلى تحجيم قدرة الحكومة في إدارة مؤسّسات الدولة، إلى جانب تحويل المهمة الوظيفية للوزراء الموالين لهم في الحكومة إلى ممثلين لهم، ومن ثم قوى إسناد سياسي تنفذ أجنداتهم، ومن ثم فإن قدرة أعضاء المجلس الرئاسي على التعطيل تظلّ كما هي في ظل غياب مرجعيةٍ قانونيةٍ تحدّد صلاحياتهم وعلاقتهم بالحكومة، إلى جانب أن استمرار سياسة المحاصصة يقلّص من قدرة الحكومة على ممارسة وظائفها، جرّاء تأسيس دويلاتٍ سياسيةٍ ومناطقية محلية، تعمل على انتزاع سلطة الحكومة.
وفي حين ظل المجلس الانتقالي الجنوبي يطالب بتمثيل مناطق الجنوب في الوظائف ومؤسّسات الدولة وفق اتفاق الرياض، فإنه كان غطاء لانتزاع مكاسب تمكّنه من إنشاء أجهزة موازية للدولة. ولذلك، فإن تعيين رئيس وزراء جنوبي، ورغم أنه خارج شبكة تحالفاته السياسية، لن يؤدّي إلى وقف سياسته الانفصالية، بل قد يمكّنه من استخدامه مظلة جديدة لفرض تعيينات مناطقية أو على الأقل تحييده. وفي مقابل استمرار أدوات التعطيل، يمثل إرث الحكومة المعترف بها من طرق إدارتها مؤسسات الدولة إلى بقاء معظم الكادر الوظيفي خارج اليمن عامل إعاقة آخر، فعلى الرغم من مطالبة رئيس الوزراء الجديد بعودة موظفي الدولة إلى عدن، فإن ضبط وضع الحكومة واستقرارها يقيّده الوضع العام في المناطق المحرّرة، من التسيّب الوظيفي، وامتيازات العيش في الخارج، إلى تحوّل عواصم الدول المتدخّلة إلى وجهة سياسية وسياحية لمنظومة سلطة المجلس والحكومة.
بموازاة التعقيدات الوظيفية التي تواجهها الحكومة ورئيس وزرائها الجديد، يمثل إيجاد اصطفاف سياسي محلي عقبة أخرى، إذ لن يؤدّي تغيير رأس السلطة التنفيذية إلى توحيد القوى السياسية، فإلى جانب أن تعيين بن مبارك يعد تدويراً لمراكز النفوذ في إطار سلطة المجلس الرئاسي، ومن ثم تنمية امتيازات جديدة لقوى صاعدة، فإن القوى السياسية المتنافسة ستسعى، هي الأخرى، إلى حصد استحقاقاتها في هذه المرحلة. وإذا كانت المراهنة على رئيس الوزراء الجديد لإدارة أزمة الملاحة في البحر الأحمر وتحسين مركز المجلس الرئاسي مقابل جماعة الحوثي وذلك بتشبيك علاقات مع الولايات المتحدة، كونه وزير خارجية سابقاً، إلى جانب عمله سفيراً في واشنطن، فإن تحسين شروط العلاقة البينية يخضع للأولويات الأميركية. ولذلك، يظلّ الملف الاقتصادي أهم اختبار لرئيس الحكومة، من تحسين الوضع الاقتصادي والسيطرة على التضخّم وترشيد الإنفاق، إلا أن عجز الحكومة عن تنمية موارد اقتصادية بديلة، خصوصا مع استمرار إعاقة بيع النفط جرّاء تهديدات جماعة الحوثي، وذلك لعدم قدرتها على السيطرة على موارد الدولة والإشراف عليها لهيمنة قوى المجلس على هذه الموارد لمصلحتها، إلى جانب تجذّر شبكات الفساد في أطر الحكومة والمجلس الرئاسي، يجعلها رهنا باستمرار الدعم الاقتصادي من حلفائها الإقليميين، ثم عبئا على حلفاء، وإنْ كان هذا الدعم مشروطاً، فإذا كانت الإمارات اكتفت بعقد صفقات اقتصادية مع رئيس الحكومة السابق من تأهيل الموانئ إلى تنفيذ مشاريع في المناطق الجنوبية، فإنه لا يمكن التكهّن بقدرة رئيس الوزراء الحالي على استمالتها لدعم الاقتصاد المنهار. ومن جهة ثانية، السعودية، وإن ضخّت 250 مليون دولار للبنك المركزي في عدن، دفعة ثانية من الوديعة، في محاولة لتحسين وضع رئيس الوزراء الجديد، فإن هذه الأموال التي لا يُعلم كالعادة أبواب تصريفها لن تؤدّي إلى تحسين الوضع الاقتصادي المتردي في المناطق المحرّرة، بل ستعمل على تعويمه، ومن ثم لا يعني تغيير رأس الحكومة عبور ضفة الأمان لسلطة منقسمة ومتمايزة ومتعدّدة الولاءات.
العربي الجديد