هل أصبحت المحافظات اليمنية كانتونات مستقلة عن الحكومة؟

فتحت الحرب التي دشنت في العام 2014 في اليمن إثر اقتحام الحوثيين للعاصمة صنعاء الباب لتجريف الإدارة العامة وتقويض مؤسسات الدولة وطمس ممارسات إدارية مكتسبة بالتقادم منذ قيام النظام الجمهوري في اليمن في سبتمبر 62 شمالا ونوفمبر 67 جنوباً.  قبل الشروع في توضيح نماذج لهذا التجريف سنعرج سريعاً على مراحل بناء جهاز الدولة في اليمن حتى نعرف أوجه الخلل ومنطلقاته بقدر ما يتيح هذا المقال القصير. 


مسار أعرج 


خضعت الإدارة العامة في اليمن لمراحل طويلة لبناء جهاز الدولة وانجزت التشعب والتعقيد والتخصص تدريجيا رغم اختلاف التجربتين في الشمال والجنوب من منظور أيديولوجي انعكس أيضا على الممارسات الإدارية وخيارات السياسات العامة.


لذا فالجامع المشترك في النظام قبل الوحدة كان الكسل الإداري والتواكل والتقصير في بناء القدرات وفق تصور تطوري خطي، ولهذا كانت جهورية 22 مايو هي حصيلة لمساوئ النظامين من ناحية إدارية رغم أنها قدمت تعزيزات هيكلية يمكن البناء عليها للإنتقال إلى بيروقراطية قابلة لتشكيل الدولة بمعزل عن النظام السياسي. 


اتخذ نظام صالح سلسلة إجراءات عقب حرب 1994 قطعت الطريق تدريجيا لتشكيل بيروقراطية يمنية تقوم على الكفاءات إنما على تقاسم كعكة الوظيفة العامة كمكافأة إنجاز حرب 1994، تقاسم رأسي وأفقي للوظائف بين حلفاء الرئيس صالح وإزاحة الكوادر المكتسبة من عقود مقابل تعزيز الولاء، ووصل الأمر إلى تشكيل كارتيلات اقتصادية -إدارية -عسكرية متصلة بشكل مباشر بأسرة صالح تنَفُذ من خلال حزب المؤتمر.


تحول الى الامر إلى تقليد امتد وتجذر حتى 2011. 


المرحلة الإنتقالية التي اشتركت فيها أحزاب المعارضة في السلطة إلى جانب حزب المؤتمر كان تقاسما في إطار المركز بصفة رئيسة مع إبقاء وضع المحافظات على نفس المستوى عدا محافظة صعدة التي كان الحوثي قد اقتطعها وسلخها من الكيان المركزي مع البقاء على رابط استلام المخصصات المالية من صنعاء دون القدرة على إنفاذ الإدارة المركزية. 


كانت صعدة حالة شاذة في الممارسة الإدارية الجمهورية لا يمكن قياسها بمناطق تحت سيطرة الحكومة ولا مناطق تحت سيطرة جماعات متطرفة أسست إمارة في الجنوب، لكن هذا الوضع لم يلفت انتباه أحد حينها لأن نوع من المهادنة والقبول بالافتكاك من السلطة قد سرى تحت مبررات كثيرة ثم إن الحكومة التي أدارت البلاد منذ 2012 كانت منهمكة في المحاصصة الحزبية أكثر من الحفاظ على كيان الدولة.


تسلحت الحكومة للقضاء على إمارة متطرفة في الجنوب وكانت متحرجة جدا من خوض حرب في صعدة بعد ستة حروب مع الحوثيين جعلت صورتهم كجماعة مظلومة.  


زحف الحوثيون على المدن باتجاه الجنوب وصولا إلى صنعاء ليرِثوا كياناً بيروقراطيا مهلهلا لكنه يمشي بحكم قانون القصور الذاتي، وهو في صنعاء أفضل من غيره من المناطق دون شك، لكنهم عملوا على فكفكته تدريجيا من خلال إنشاء كيانات موازية تهيمن ولا تدير وهي سلطة المشرفين. 


نجحت عاصفة الحزم في اليمن في الحد من انتشار الحوثيين خارج النطاق الجغرافي الحالي لهم مع استعادة عدن ونصف تعز من أيديهم والحفاظ على مأرب، لكن من الناحية الإدارية تفكفكت السلطة المركزية كلياً وعجزت الرئاسية -باعتبارها المؤسسة النفاذة – عن إدارة الشهد اليمني عسكريا وإداريا، اذ لا يمكن المغامرة والحديث عن أن عدن تؤدي دورها كعاصمة مؤقتة لا يحضر فيها رئيس الجمهورية وتعرض الحكومة للطرد مرارًا فيما تقوم مأرب بدور العاصمة البديلة فعلياً.. ثم إن الحكومة لم تقدم ميزانية عامة واضحة أو فعلت اليات الرقابة المالية والإدارية. 


وجود رئيس دولة وحكومة اسمية خارج البلاد منح المحافظات التي لا تخضع لسيطرة الحوثيين مساحة أكبر للمناورة الإدارية، تجلت هذه المناورة من خلال الإمساك على الواردات المالية وصرفها خارج التخصيص المجمع وفق الميزانية، استحداث مناصب ووحدات إدارية جديدة والتنازع مع الوزراء في التعيينات، فرض الطوارئ او قررا حظر التجوال والذي هو من اختصاص رئيس الجمهورية حصراً.. تشعيل منافذ برية وبحرية خارج الاشراف الحكومي. 


مؤخراً في تعز اتخذ السلطات المحلية سلسلة إجراءات منها إصدار عفو عام وهو ليس من صلاحيات المحافظ على الإطلاق وكذلك إعلان التعبئة العامة واستقطاع أموال من الموظفين دون قانون. 


لا يخفى الحال في عدن أو المخا وكيف أننا نعيش مع وحدات أمنية وعسكرية لا وجود لها في الهيكل العام للقوات المسلحة. 


قضائيا نشاهد كيف تعطلت المحاكم الإدارية إلى درجة لا يمكنك رفع دعوة ضد أي طرف من مناطق الحكومة، كما يجري اقتطاع لمناطق الاختصاص، انتشرت وثيقة تمنح نيابة المخا تخصصات مكانية غير منصوص عليها في اللوائح المنظمة لأعمال النيابات ولا للسلطة المحلية. 


في مأرب تجري محاكمة قيادات حوثية بينما هي ليست العاصمة الإدارية والقضائية للبلاد. 


المخاطر المحتملة. 


يحمل هذا التجريف للإدارة العامة مخاطر كبيرة تتمثل أولا في تفكيك البلاد في كانتونات (في مناطق سيطرة الحكومة) ستنزع تدريجيا إلى القيام بمهام سيادية منها توقيع اتفاقيات أو منح امتيازات دولية.  


ثانيا في نسف الحقيقة القانونية المتمثلة بالجهورية اليمنية لفرض واقع تشطيري لا يتوقف عند بلدين لليمن فقط إنما مصفوفة لانهائية مدعومة بنزعات استقلالية محلية تغذيها عصبيات القبيلة والمذهب والحمولة التاريخية الطرية من التاريخ اليمني الحديث ودعم إقليمي لمراهق لا يأبه لمسألة الاستقرار.


هذا التشرذم الإداري قد يقود إلى تقوية الكانتونات أمنيا وعسكرياً بحيث يجعلها عصية على الخضوع حتى لو انهارت الحكومة الشرعية وسيفرض في أحسن الأحوال معادلة فيدرالية لا تتيح للحوثيين الهيمنة الجغرافية خارج نطاقهم الحالي المفرض بقوة السلاح لا بالحاضنة الشعبية او المذهبية، وهذا النطاق عينه سيكون مدعاة للتفكك فيما لو حازت المناطق الأخرى على مزيد من الاستقلالية المالية والإدارية تحت سقف اليمن الواحد واستفادت من عائداتها ووظفتها في مجالات التنمية التي حرمت منها طويلاً. 


بالمقابل ستكون فيدرالية تحمل بذورهشاشتها ويصعب معها تنفيذ سياسات عامة متوائمة لمواجهة مشاكل مزمنة من قبيل شح الموار المائية ورسم سياسات تعليمية تحديثية وغيرها. 


الخلاصة هي أن هذه الحرب ستتناثر حروباً أصغر غير مرئية دولياً لكنها أكثر فتكاً بالكيان اليمني، وقد ركز هذا المقال أكثر على ما يحدث في نطاق الحكومة الشرعية لأن الخوض في استحداثات يفعلها الحوثي تتطلب حديثا مستقبلا يندرج أكثر في إطار الاقتصاد السياسي ستكون موضعنا لكتابة لاحقة.