بينها تماثيل لملكات سبأ: تحف يمنية منهوبة تباع في مزاد فيينا
استمراراً لمشاهد تشظي تاريخ اليمن بفعل أوضاعه المتوترة على الدوام كشف ناشطون عن عرض ثلاث قطع أثرية يمنية نادرة في مزاد "الآثار الجميلة والفنون القديمة" الذي ينظمه "غاليري زاكي" بالعاصمة النمساوية فيينا في الـ21 من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل ضمن مجموعة وصفها المزاد بأنها من "المصادر المرموقة والمجموعات التاريخية النادرة حول العالم".
وقال المتخصص في الآثار عبدالله محسن في حديث إلى "اندبندنت عربية" إن إحدى القطع المعروضة عبارة عن "بروتوم ثور من المرمر من مجموعة فرنسوا أنتونوفيتش التي سبق لليمن أن استعاد 16 قطعة من المجموعة نفسها، بينما بيعت قطع أثرية أخرى في المزادات". وأوضح أن من بين القطع التي بيعت "رأساً منحوتاً من مرمر بيع في مزاد دار ليون وتورنبول عام 2023، وجزء كبير من مجموعته تكون من محافظة الجوف (شمال)، حيث تنتشر عمليات الحفر غير القانونية للمواقع الأثرية".
ومن بين القطع تمثال يعود لأميرة من مملكة سبأ وفي الحقبة التي تعود إلى القرن الـ10 قبل الميلاد واستمرت حتى عام 275م. أما القطعة الثانية المعروضة في المزاد فيكشف محسن عن أن "مصدرها مواقع محافظة مأرب (شرق)، ويدعي البائع الأول أنه حصل عليها قبل عام 1971 من دون وجود تصريح تصدير آثار، لذا اضطر إلى كتابة تعهد بملكيته لها، أما القطعة الثالثة وهي لوح برونزي عليه نقوش بخط المسند فعرضت في التسعينيات في سوق لندن".
وفي حال اليمن لا يبدو خبر استعادة قطع أثرية مثيراً لانتباه ملايين الجوعى والمشردين والخائفين الذين ينتظرون استرجاع السلام لبلدهم المنهك، ولهذا تبدو مهمة استعادة تلك القطع مرهونة بمدى فاعلية تعاطي الحكومة الشرعية المنشغلة بوضع الداخل الصعب والمعقد، وهي مهمة تصعب عقب عقود من الإهمال الذي طاول جُل المواقع التاريخية التي شهدت أطلالها الكسيرة الباقية قيام واحدة من أعرق الحضارات الإنسانية. ولهذا لا يتوقع أن تتخذ السلطات المعترف بها دوراً فاعلاً في استعادة تلك النفائس التاريخية.
"من تمنع بيحان"
يذكر محسن تفاصيل إحدى القطع التي تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، ويقول تبدو "منحوتة بصورة واضحة على شكل رأس امرأة بأنف طويل ومستقيم وشفتين بارزتين وذقن مدبب وعينين كبيرتين لوزيتين أسفل حواجب منحوتة بدقة، وشعر مربوط للخلف خلف الأذنين ارتفاعها 18.5 سم، أما وزنها فيبلغ 4 كيلوغرامات".
ووفقاً لكتالوغ المزاد فإن "رؤوس المرمر من هذا النوع مزودة بالجبس وتوضع في مكانة مستطيلة مرتفعة على لوحة من الحجر الجيري المنقوش موجهة لمواجهة المشاهد مباشرة"، كما تظهر الأمثلة تجاويف عيون وحواجب كبيرة مثقوبة مجهزة للترصيع، وهي سمات موثقة على رؤوس جنوب شبه الجزيرة العربية في المتحف البريطاني، حيث كانت الحواجب والبؤبؤات تُملأ بالزجاج أو الحجر، وعلى شواهد جنائزية ذات صلة نقشت عليها أسماء المتوفى أو عشيرته.
ووفقاً للمتخصص في الآثار "تشير مواقع الاكتشافات وسجلات المتاحف إلى أن هذه الأعمال تعود إلى الممالك الرئيسة في اليمن القديم، بما في ذلك قتبان التي كانت تقع عاصمتها في "تمنع بمنطقة وادي بيحان (شرق) وسبأ مأرب، مما يشير إلى استخدام إقليمي واسع النطاق لمثل هذه المعالم التذكارية". ويقول إن من بين المسروقات تحفة على شكل "رأس أنثى من مقبرة تمنع (مريم) يوضح بصورة أكبر بنية النوع والشعر المضاف إليه الجص والعينين المطعمتين باللازورد أو الزجاج الأزرق، مع تأكيد السياق الجنائزي"، كما "تعزز التماثيل الجنائزية المماثلة المصنوعة من المرمر والشواهد في مجموعات المتاحف مثل المتحف البريطاني دورها كعلامات قبور أو مكونات لآثار المقابر في جميع أنحاء اليمن".
23 ألف قطعة في الشتات
عن تقديراته لعدد القطع الأثرية التي لا تزال خارج سلطة الدولة يؤكد المتخصص اليمني أنه "لا يوجد إحصاء رسمي لعدد القطع الأثرية خارج سلطة الدولة، لكن التقديرات تشير إلى رقم يتجاوز 23 ألف قطعة أثرية ما بين تماثيل وشواهد جنائزية ونقوش وبرونزيات وعملات وحُلي".
بحسب المزاد المعروض كتب أحد المتخصصين حول مملكة سبأ القديمة "كانت تتحكم في طرق البخور التي تنقل اللبان والمر من جنوب شبه الجزيرة العربية، اليمن، إلى البحر الأبيض المتوسط وبسيطرتها على ممرات القوافل عبر منافذ مأرب - شبوة - قانا (بئر علي) والبحر الأحمر، استفادت سبأ من الجمارك والدبلوماسية والتجارة التي أقرتها المعابد لتزويد الأسواق الرومانية والنبطية والمصرية بمنتجاتها في ذروة الطلب. وشهدت تلك الفترة أيضاً اجتياز سبأ لموجة صعود القوة الحميرية وحملة إيليوس غالوس الرومانية الفاشلة (26 - 24 قبل الميلاد)، مما أبرز الأهمية الاستراتيجية للمنطقة. وجعل إتقان سبأ للعطريات منها ركيزة أساسية للتجارة في أواخر العصر الهلنستي وأوائل العصر الروماني، مع تأثيرات ثقافية ونقدية ملموسة على نطاق واسع في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط".
ودولة قتبان مملكة عريقة ظهرت في أول الأمر في وادي بيحان، وامتدت أراضيها منه شرقاً إلى البحر الأحمر غرباً، ومن أنحاء مدينة ذمار شمالاً، إلى البحر العربي جنوباً، وتفيد أحدث الأبحاث التي أجريت على نقش قتباني اكتشف حديثاً بأن مملكة قتبان خاضت حرباً ضد مملكة حضرموت وفي تلك الحرب ادعى القتبانيون أنهم دمروا أكثر من 300 مدينة تابعة لحضرموت.
وفي نهاية عام 1999 توصلت بعثة أثرية إيطالية فرنسية إلى اكتشاف معبد قديم في تمنع يعود تاريخه إلى الفترة ما بين القرون الثلاثة قبل الميلاد والقرنين الأول والثاني بعد الميلاد، وهي فترة ازدهار مملكة قتبان، ومساحة المعبد تصل إلى 23.5 متراً، إضافة إلى أن المعبد المكتشف واسمه معبد يشهل كان مكرساً للمعبودية القتبانية "أثيره"، وقد قام على أنقاض معبد سابق يعود تاريخه إلى القرن السابع وربما الثامن قبل الميلاد.
نهب وتهريب
تبعاً للحرب ونتائج انقلاب الحوثي عام 2014 تعرضت الآثار اليمنية لعمليات نهب وتهريب ممنهج، وأضحت تجارتها رائجة وتتم بصورة شبه علنية كما هي الحال في محافظات مأرب وشبوة والجوف وإب لأنها مناطق غنية بالمواقع الأثرية التي طمرت صحاريها حضارات عدد من الدول القديمة الكبرى مثل سبأ وحمير وأوسان وقتبان وحضرموت ومعين وغيرها.
وباتت عمليات سرقة الآثار في اليمن مألوفة من قبل تجار متخصصين في هذا المجال بالتعاون مع سماسرة محليين، استغلالاً لغياب الرقابة الأمنية التي عرضت غالبية المواقع لعمليات النهب والنبش العشوائي تسبب في ضياع النفائس التاريخية في اليمن، وتدليلاً على ذلك ما تشهده المواقع الأثرية في محافظتي شبوة ومأرب لعمليات التجريف والنهب وهي مناطق قامت على ترابهما ممالك عدة من أهمها قتبان وأوسان وسبأ وحضرموت، سادت ثم بادت خلال فترات زمنية تراوح ما بين 3 و4 آلاف سنة.
سرقة في وضح النهار
في حديث سابق إلى "اندبندنت عربية" كشف المسؤول الأمني عن حماية الموقع الأثري في مدينة تمنع أمين دوام عن أن منطقة الهجر الأثرية تعرضت في مراحل متعددة خلال العقود الثلاثة الماضية، للنهب والتجريف والسرقة من قبل نافذين وتجار آثار.
وقال دوام إن الاستهتار بالإرث اليمني القديم بلغ لدى لصوص الآثار حد الاستعانة بالجرافات بحثاً عن القطع الأثرية والعملات الذهبية القديمة التي تدر عليهم مبالغ طائلة جداً أو لتهريبها إلى الخارج"، مؤكداً "ضعف الدور الحكومي، ومن أبرز جوانبه غياب الحماية الأمنية الكافية، مما شجع على تجريف التراث الإنساني اليمني". وأوضح أن عدداً من المواقع من أبرزها مدينة شبوة القديمة وتمنع الأثرية التي تحوي مركز الدولة القتبانية وقانون التجارة والضرائب كأول قانون تجاري عرفه العالم قبل 3 آلاف سنة تعرضت لعمليات نهب منظم.
ولا تزال بقايا مسلة قتبانية نقشت على جوانبها أحكام التجارة في سوق المدينة باقية إلى اليوم كشاهد على شيء من ازدهار تلك العاصمة المنسية التي تنتظر التنقيب الشامل ليكشف عن تاريخها الذي طمرته الرمال.
اندبندنت عربية