القابلية للانفجار.. اتفاق الرياض والامتحان الصعب للسعودية في عدن (تحليل)
لم تكن حادثة اقتحام مقر الحكومة اليمنية بمنطقة "معاشيق" في العاصمة المؤقتة عدن، الثلاثاء الماضي، من قبل أنصار ما يسمى المجلس الانتقالي الجنوبي مفاجئة للكثيرين، بل فالمتوقع أن يحدث ما هو أكبر منها، ويعود ذلك للثغرات التي اكتنفت "اتفاق الرياض" الموقع بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي المدعوم إماراتيا، في 5 نوفمبر 2019، وإبقاء الوضع مفخخا وقابلا للانفجار في أي لحظة، ويكمن الخلل ليس فقط في تنفيذ الشق السياسي من الاتفاق قبل تنفيذ الشقين الأمني والعسكري، ولكن أيضا في فشل الدبلوماسية السعودية ذاتها، والتي تختلط فيها النوايا الحسنة بالمؤامرات القذرة، وتغيب في خضم ذلك مصالح المملكة ومصالح حلفائها.
وإذا كانت حادثة اقتحام مقر الحكومة اليمنية في عدن، الذي تقيم فيه منذ 30 ديسمبر الماضي، تعكس التنمر الإماراتي وشراسة الأقلية الانفصالية وضعف تواجد السلطة اليمنية الشرعية وعلاقة السعودية الغامضة بما يجري، لكن دلالات تزامنها مع اشتداد وتيرة المعارك بين الجيش الوطني والحوثيين في محافظات مأرب وتعز وحجة، تكشف جوانب كثيرة من تعقيدات المشهد في اليمن والعلاقة الملتبسة بين مختلف الأطراف وتقاطع المصالح، وفي المجمل فإن ما يحدث في عدن يعكس فشل الدبلوماسية السعودية في اليمن ويهدد بنسف اتفاق الرياض وعودة الأوضاع إلى مربع الصفر، بينما الحوثيون هم المستفيد الأكبر من حالة الفوضى في عدن والمحافظات المحررة.
- دلالات التوقيت
من الظواهر السياسية غير المنطقية في اليمن التي تشكلت على هامش الحرب، أن التصعيد ضد السلطة اليمنية الشرعية في العاصمة المؤقتة عدن وبعض المحافظات المحررة لا يحدث إلا في الوقت الذي يُصَعِّدُ فيه الحوثيون ضد السلطة الشرعية أيضا، أو يتكبدون خسائر فادحة في بعض جبهات القتال، مما يضع علامات استفهام كثيرة حول حقيقة العلاقة بين الحوثيين والمجلس الانتقالي والطرف الإقليمي المحرك لهم، وهل الأمر يقتصر على تبادل منافع مرحلي وكل طرف يخفف الضغط على الطرف الآخر، أم أن ثمة توافقات على أجندة ومشاريع محددة ترعاها أطراف إقليمية.
لقد تزامنت حادثة اقتحام مقر الحكومة الشرعية في العاصمة المؤقتة عدن، مع اشتداد وتيرة المعارك في محافظات مأرب وتعز وحجة، وسط انهيارات غير مسبوقة للحوثيين في تعز، وفشل أعنف حملة عسكرية أعدوها للسيطرة على محافظة مأرب، ولم يتمكنوا من تحقيق تقدم يذكر رغم مرور شهر ونصف الشهر على بدء الهجوم على مأرب، بالإضافة إلى تراجعهم في محافظة حجة بعد تحرك المنطقة العسكرية الخامسة هناك واستعادتها السيطرة على بعض المواقع.
وفي الوقت الذي شهدت فيه المحافظات المحررة إرسال قوافل غذائية وتعزيزات بالمقاتلين إلى محافظة مأرب، التي تتعرض لأعنف هجوم حوثي، بدأ المجلس الانتقالي المدعوم إماراتيا بتحريك أنصاره للتظاهر ضد السلطة الشرعية احتجاجا على تردي الأوضاع المعيشية، والمطالبة بصرف رواتب أفراد مليشياته من السلطة التي يسعى للانقلاب عليها وطردها من عدن، وسمحت مليشياته بدخول مئات المتظاهرين إلى مقر تواجد الوزراء في منطقة "معاشيق" الرئاسية، وقوبل هذا التصعيد بإدانة سعودية وصمت إماراتي.
- رهان خاسر
والملاحظ أن التصعيد ضد السلطة الشرعية في عدن جاء بعد أيام من تصريح لرئيس المجلس الانتقالي، عيدروس الزبيدي، قال فيه إنه في حال سقوط مأرب بيد الحوثيين فإنه سيُجرى التفاوض بين "الانتقالي" وجماعة الحوثي حول مسألة انفصال جنوب اليمن، باعتبار أن سقوط مأرب يعني إزاحة السلطة الشرعية من المشهد تماما.
غير أن عجز الحوثيين عن اقتحام مأرب وتراجعهم في تعز وحجة أربك المجلس الانتقالي، وأحبط تعويله على سقوط مأرب وبالتالي إزاحة السلطة الشرعية من المشهد بعد أن عجزت المليشيات الانفصالية عن إزاحتها في عدة محافظات جنوبية، ولذا اتجه "الانتقالي" للتصعيد في بعض المحافظات الجنوبية محاولا ركوب موجة المطالب الشعبية للحكومة بتحسين الأوضاع المعيشية، بهدف إرباك الحكومة والتشويش على سير المعارك في الجبهات المشتعلة بمحافظات مأرب وتعز وحجة، أملا في أن يتسبب ذلك التصعيد في تحقيق مكاسب خاصة وتخفيف الضغط على الحوثيين، كون القضاء على الحوثيين يعني اكتساب السلطة الشرعية قوة ونفوذا سيحول دون تحقيق المجلس الانتقالي لمشروع انفصال جنوب اليمن والانفراد بالسلطة هناك.
إن الرهان على سيطرة الحوثيين على شمال اليمن وإزاحة السلطة الشرعية من آخر معاقلها لتحقيق هدف الانفصال هو رهان خاسر، لأن سيطرة الحوثيين على محافظة مأرب ستغريهم بالتقدم جنوبا، كونهم يرون أن مأرب تمثل أبرز عقبة أمام مشروعهم الانقلابي، وما سواها فهم لا يحسبون له أي حساب، والدليل على طموحهم بالسيطرة على الجنوب ما حدث خلال العام 2015 في عدن وغيرها من مدن الجنوب، حيث استماتوا لأجل السيطرة عليها، وساندتهم في ذلك قوات الجيش الموالية للرئيس السابق علي صالح، ولم ينسحبوا إلا بعد معارك عنيفة وتكبدهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
مع العلم أنه قبل الحرب كان هناك حديث عن وعود إيرانية لفصائل جنوبية منادية بالانفصال بأنها ستنال الدعم لتحقيق انفصال جنوب اليمن في حال سيطر الحوثيون على المحافظات الشمالية، وكانت هناك رسائل غزل متبادلة بين الحوثيين والانفصاليين خلال مؤتمر الحوار الوطني، وقد امتنعت تلك الفصائل عن مواجهة الحوثيين خلال معركة تحرير عدن، ووصفت الحرب هناك بأنها بين قوى شمالية نقلتها إلى عدن وأنها لا تعنيها، وذلك بسبب الدور الكبير للإصلاحيين والسلفيين في معركة تحرير عدن، وهم خليط من محافظات شمالية وجنوبية، إلى جانب مقاتلين قبليين من المحافظات المجاورة لعدن.
- القابلية للانفجار
لقد تعثر تنفيذ اتفاق الرياض أكثر من عام على توقيعه، وبعد تنفيذ الشق السياسي منه ها هو تنفيذ الشقين الأمني والعسكري يتعثر، وما تم تنفيذه من الاتفاق حتى الآن فقد انحصر على البنود التي تمثل مكاسب لصالح المجلس الانتقالي، ورغم أن "الانتقالي" أعلن وقف التصعيد ضد السلطة الشرعية، وإفساح المجال لتنفيذ ما تبقى من اتفاق الرياض، بعد تحريك أنصاره لاقتحام مقر الحكومة، لكن الحقيقة هي أن "الانتقالي" يسعى لتحقيق مكاسب خاصة، وتبادل منافع مع الحوثيين، في وقت تبدو فيه السلطة الشرعية مشغولة بمتابعة سير المعارك المشتعلة في عدة جبهات ضد الحوثيين، بينما الأزمة المعيشية المتفاقمة في المحافظات الجنوبية كانت من صنيعة المجلس الانتقالي الذي حال دون التواجد الطبيعي للحكومة، ونصب العراقيل أمامها، وتنصل عن تنفيذ الشقين الأمني والعسكري من اتفاق الرياض، حتى لا تتوفر أجواء طبيعية وحالة من الأمن تمكن الحكومة من أداء مهامها.
وما زال "الانتقالي" يحرص على أن يكون أعضاء الحكومة تحت حراسة مليشياته بمنطقة "معاشيق" في عدن، ويسوق إليها أنصاره ويفسح لهم المجال لاقتحام مقر الحكومة، ولا يُستبعد أن يفتعل "الانتقالي" أي حادثة كبيرة (اغتيال أحد ممثليه في الحكومة مثلا أو اغتيال أحد قادته الكبار، مثل حادثة اغتيال أبو اليمامة)، ليتخذها ذريعة للتصعيد ضد السلطة الشرعية وتحميلها المسؤولية عن ذلك، واعتقال أعضاء الحكومة وتغييبهم في سجون سرية، أو إجبارهم على الفرار من مدينة عدن، والإعلان عن تشكيل حكومة "إنقاذ" انفصالية جديدة، أو إدخال المحافظات المحررة في متاهة جديدة من الصراعات والمعارك العبثية، وإرباك السلطة الشرعية في معركتها ضد الحوثيين لتخفيف الضغط عليهم، والسعي لتحقيق مكاسب جديدة تفوق المكاسب التي حصدها بفضل اتفاق الرياض في نوفمبر 2019.
الخلاصة، إن تدليل السعودية الزائد للمجلس الانتقالي، وتغاضيها عن التنمر الإماراتي، وعدم جديتها في التنفيذ الكامل لاتفاق الرياض، وجعله ملهاة سياسية تكتنفها ثغرات عدة، وتفخيخه ببنود غير واضحة وتحتمل أكثر من تفسير، كل ذلك يجعل الوضع في العاصمة المؤقتة عدن قابلا للانفجار في أي لحظة، وهو انفجار قادم لا محالة، إذا لم تحسم حالة الفوضى القائمة في عدن، وإخراج مليشيات المجلس الانتقالي منها، وتعزيز حضور الحكومة الشرعية داخلها، فهل ستضغط السعودية لتحقيق ذلك إنقاذا لاتفاق الرياض وتكريما لدبلوماسيتها، أم أن الأوضاع ستنفجر، لننعى اتفاق الرياض، وننعى الدبلوماسية السعودية في اليمن، بعد فشلها في "الامتحان الصعب" لها في عدن؟