صوت من العصر الذهبي الاتجاهان اللذان صاغ بهما المرشدي مسيرته
بدأ محمد مرشد ناجي مسيرته اللحنية والغنائية متأثرًا بتيار الندوة الموسيقية العدنية، المنحاز في مزاجه للأسلوب المصري. ثم سرعان ما اشتقّ لنفسه اتجاهًا لحنيًّا، أكثر اتصالًا بالمفردات اللحنية اليمنية. وفرض أسلوبًا تجديديًّا ينزع إلى تطوير المضامين اللحنية المحلية من جذورها.
ووفقًا للاتجاهين اللذين صاغ بها المرشدي مسيرته، ترك بصمة عظيمة. وفرض نفسه كواحد من أهم الأصوات الغنائية واللحنية في عدن، خلال النصف الثاني من القرن العشرين. فكان صوتًا موسيقيًّا فريدًا، سواء في اتجاهه المُبكر ضمن الندوة الموسيقية، أو في توجّهه الأكثر انغماسًا بالنسيج اللحني اليمني.
منذ اللحظة الأولى، كشف المرشدي عن موهبة لحنية كبيرة، بحسب ما قاله في مقدمة كتابه "أغانينا الشعبية"، كانت قصيدة "هي وقفة" أولَ لحنٍ له، وصاغه على مقام الراست. وكانت ميلادًا يكشف عن ملحن بارع، ولم يُخفِ الفنّان والناقد الموسيقي الأستاذ جابر علي أحمد شكوكًا راودته حول ما إن كان بالفعل أول لحن للمرشدي، لولا أنّ اللحن -حدّ تعبيره- سيطرت عليه روح الندوة الموسيقية العدنية، وليس مخزونه الشعبي والتقليدي.
ويرى جابر أنّ هذا اللحن ينم عن وجود تجارب لحنية سابقة للمرشدي، بطبيعة الحال لم تكتمل. لكنه يكشف أيضًا عن فنّان، بدأ مشواره بتحدٍّ، ليخوض في واحد من أكثر القوالب الغنائية العربية تعقيدًا؛ أي القصيدة. ورغم السمات اللحنية المصرية البارزة على ذلك اللحن، يقول جابر بأن لحن المرشدي يسمح بتسلل صيغ محلية. ما يعني أنه منذ اللحظة الأولى كان واعيًا لخلق شخصية فريدة ستميّزه خلال مساره.
ويتبيّن هذا النزوع لصاحب "يا نجم يا سامر" في وجود قفزات في الدرجات النغمية، في ألحانه المُبكرة. خلافًا لما اتسمت به ألحان تيار الندوة الموسيقية العدنية، بصيغة متدرجة بين النغمات في السلم الموسيقي.
لا تقتصر سمات المرشدي على جانبه اللحني، فأسلوبه الغنائيّ ظلّ مميزًا وآسرًا؛ عذوبة صوته، وإحساسه الرفيع، ورغم تعلمه الذاتي، يُحسب له أسلوبه المرهف في العزف على العود، فكان مجيدًا. وكان دائمًا في أحاديثه يكشف عن فنان لديه مفاهيم عالية، رغم أنه لم يحظَ بتعليم أكاديمي.
ويعزو المرشدي الآفاق اللحنية التي تكوّنت لديه -حدّ ما قاله جابر في حديث خاص معه- إلى الفترة التي انضمّ فيها للندوة العدنية. ويتكشف اتساع أفقه اللحني في أعمال لاحقة، خصوصًا في قصيدة "ذات الخال". حيث تمتزج فيها الملامح التعبيرية بمزيج من العناصر اللحنية المصرية واليمنية، بتماسكٍ لافت، بحيث تبدو عناصر متجانسة. فتمتزج الغنائية الشرقية بلمحات محلية أخّاذة، ليضفي على الغناء اليمني بُعدًا تعبيريًّا غير مسبوق.
حتى في ألحان تطفح بالصيغ اللحنية اليمنية، سنرى المرشدي يضفي عليها عناصر مصرية وعربية. لكن دون أن تطفح على المسار اللحني والغنائي. وتُعدّ أغنية "قطفت لك" واحدة من أبرز ألحان المرشدي، سواء ببنائها اللحني أو سمتها التعبيرية. فيؤسس نزوعًا تجديديًّا عضويًّا في بنية اللحن اليمني، دون استباحة خصائصه العامة. وفي هذا المجال يُعدّ المرشدي المثال الأبرز في تجديد الأغنية اليمنية.
وتمتاز ألحانه الثلاثة المشار سلفًا إليها، بالثراء والتنوّع اللحني. لكن تراث المرشدي لا يتوقف عند لحن أو مجموعة ألحان بعينها، إنّما يبدو بما تركه لحظة تجمعت حولها كل فروع وألوان الغناء اليمني.
سمات التباين
وبالعودة إلى ألحان، مثل "يا نجم يا سامر"، على مقام البيات، سنلاحظ كيف تغدو العناصر اللحنية المحلية منفتحة على سمات عربية، وتمتزج في وحدة عضوية، وأعطى للأغنية اليمنية مساحة حضور يتجاوز محليتها، ليس لأنّ الفنّان السوري فهد بلان قدّم اللحن. إنّما أيضًا لطابع متوثب في اللحن يسمح له أن يحظى بشعبية عريضة.
بينما سنرى طابعًا آخر في نزوع المرشدي، منح من خلاله الطابع اللحني اليمني سمات أكثر اعتدالًا. فلحن أغنية "ضناني الشوق" على مقام البيات، تبدو كما لو أنّه أغنية يمنية ولدت لتغدو عربية، ولا يتعلّق الأمر باستعارتها من قبل الفنّان السعودي محمد عبده، والذي زعم في تسجيلها بأنّه ملحنها.
إضافة إلى عذوبتها اللحنية، والتي تتسم بقالب المذهب والأغصان، وربما للأمر علاقة بلحنها السُّلّمي، أي الذي يغلب عليه التدرج النغمي. لكن المرشدي، يكشف عن جودته في صياغة ألحانٍ بسيطة ومنحها تكوينًا رشيقًا وجميلًا. وفي الوقت نفسه، براعته في ألحان أكثر تعقيدًا، مثل قصيدة "ذات الخال" أو أغنية "قطفت لك".
ويمكن ملاحظة التباين العام، في طابع اللحن، مثلًا لحن المذهب يتسم بلمحة تطريبية شرقية، لكنه في لحن الكوبليه، خصوصًا في مطلعه "أنا قلبي عليك كم تعذّب". ولا نغفل استخدام المرشدي لإيقاع الرومبا، بميزانه الرباعي. وهو ما منحها مظهرًا عصريًّا في وقته، ولتبقى واحدة من أكثر ألحان المرشدي شعبية وشهرة.
على الأرجح، تعود الأغنية إلى الخمسينيات أو مطلع الستينيات، وهي من كلمات مهدي بن حمدون. وتعطينا صورة عن النشاط الفنّي الذي اتسمت به عدن خلال تلك الفترة. وهي الفترة الذهبية التي عرفتها صناعة الأغنية في عدن، حيث اتخذت مزاجًا برجوازيًّا. وشهدت الساحة الفنية تنافسًا بين كبار الفنّانين، حيث شكّل المرشدي إلى جانب أحمد بن أحمد مدرستين مختلفتين للأغنية العدنية، ارتقى بها إلى مرحلتها الذهبية.
ولا تقتصر سمات المرشدي على جانبه اللحني، فأسلوبه الغنائيّ ظلّ مميزًا وآسرًا؛ عذوبة صوته، وإحساسه الرفيع، ورغم تعلمه الذاتي، يُحسب له أسلوبه المرهف في العزف على العود، فكان مجيدًا. وكان دائمًا في أحاديثه، يكشف عن فنان لديه مفاهيم عالية- رغم أنّه لم يحظَ بتعليم أكاديمي، وعن فنّان كرّس حياته للغناء، وسيبقى واحدًا من لمحاتنا المضيئة، ورمزًا لزمن عدن الذهبي. ولم يقتصر أداؤه اللافت على ألحانه، ففي كل أسلوب غنائي يخوضه يترك بصمته. غنّى الكثير من ألحان التراث، وأجاد كل المدارس الغنائية، فقدّم الصنعاني والحضرمي واللحجي والبدوي، وكان بحسب ما قاله، أولَ من كتب بدايات الأغنية التعزية، فقدّم أغنية "أخضر جهيش مليان حلا عديني" من كلمات الشاعر أحمد الجابر، وكذلك "يا نجم يا سامر" من كلمات سعيد الشيباني. وكذلك لحن بطابع الغناء البدوي، "يا مرحبا بك وبأهلك وبالجمل ذي رحل بك"؛ وما أجمل وقفاته وترقيصه الألفاظ بوضوح لا غبار عليه، وارتعاشات صوته التي جعلته فريدًا.
عقد على الرحيل
في فبراير الجاري، مرّ على رحيل المرشدي عقدٌ بأكمله، ففي السابع من فبراير عام 2013، رحل عنّا، تاركًا تراثًا غنائيًّا ولحنيًّا استثنائيًّا للفنّ اليمنيّ. لكنّه وُلد ليبقى أثرًا لا يُمحى، فكان عربيًّا بقلب يمنيّ، ولا علاقة للأمر بتوجّهه السياسي الذي سيتخذ طابعًا وطنيًّا وقوميًّا، إنّما بمزاجه اللحني، فما يهمنا هو محمد مرشد ناجي الفنّان، وهو مع ذلك الإنسان الذي كافح، وأعطى لليمن روحه وصوته وفكره.
خيوط ـ جمال حسن