هُدى أبلان في ديوان «كي الأوجاع الرثة»: هل يطفئ جمر الشعر نار الحزن؟!

 لم تعد مهمة كتابة الشعر يسيرة في ظل ما تواجهه القراءة من تحديات عصر وسائط التواصل المتعددة، التي صارت تلتهم من الوقت الكثير؛ وتحولت معها مدارك القراء إلى تفضيل اليسير والأكثر جاذبية؛ وهو ما يضاعف من تحديات كاتب قصيدة النثر تحديدا، الذي يجد نفسه أمام اختبار تقديم شعر متدفق ومضيء ومكثف، تعبيرا وتصويرا ودلالة؛ كأهم ما يجب أن يزدان به هذا الشعر، دون الوقوع في المباشرة وفخ السردية.

بعد عام من صدور ديوانها السادس، «كي لا تتسع ضحكة الجحيم» أصدرت الشاعر اليمنية هدى أبلان، مؤخرا، ديوانها السابع «كي الأوجاع الرثة» عن دار الآن ناشرون في عمان.

بدءا من عتبة العنوان «كي الأوجاع الرثة» تتجلى خصوصية الشاعرية في تجربة أبلان، التي تعد من أهم أصوات قصيدة النثر في اليمن، وبلا شك تتصدر قائمة الأصوات النسوية اليمنية في هذه القصيدة. وبالتوقف أمام النص الذي انطوى على جملة العنوان، نجد الحرب مركزا موضوعيا للنص، بل لنصوص الديوان كامتداد لنصوص الديوان السادس؛ وهو أمر طبيعي لشاعرة تعيش في بلد حرب، وتتعايش مع المعاناة الناجمة عن الحرب، لكن ما يميز هدى هو قدرتها على التحليق الرمزي في تشكيل صورها، والتعبير عن مدلولات عباراتها، وفق رؤية فلسفية عميقة في تعاملها مع الألم. بموازاة الألم يحمل الديوان حسرة وندما ونقدا لواقع كان في إمكان الجميع تلافي سقوطه في مستنقع الصراع. في الوقت الذي برعت الشاعرة في عنونة ديوانها التقاطا لجملة من سياقها الشعري لتشكل هذه الجملة (العنوان) رافعا للمحمول الموضوعي والتطور الفني، الذي يتميز به الديوان. وهذه البراعة في اختيار عنوان الديوان نجدها في عنونة قصائد الديوان الخمس عشرة، إذ فيها اختزال لم يخرج بالشاعرة عن فحوى ما تريد للديوان أن يقوله للقارئ، وفي الوقت نفسه يؤشر لبراعة الشاعرة في التعامل مع اللغة وثراء قاموسها، والأهم قدرتها على التكثيف؛ وهو ما تؤكده جُملها الشعرية في كل النصوص. ومن أبرز عناوين قصائدها: عزاء غض، أشياء تدل الحرب علينا، حنجرة المعنى، اضطراب، تسامح، هوية، انكسار….

وقبل ذلك تتكشف لنا رؤيتها في ترتيب القصائد؛ وهو ترتيب لم يكن عشوائيا، بل جاء وفق رؤية تؤكد البُعد الفلسفي في التعامل مع الموضوع والأفكار، التي اشتغلت عليها القصائد، وبالتالي يجد القارئ وهو يتنقل بين القصائد، وكأن ثمة رابط خفي تسلسلي بين النصوص تتكرس معه الأفكار، وتتجلى معه الصور أكثر وضوحا وتأثيرا في كل قصيدة تتقدم بها القراءة؛ وهذا بلا شك يوحي بمدى حرص الشاعرة على أن يكون الديوان تعبيرا رؤيويا وفنيا عنها، وفي الوقت ذاته يمثل إضافة جديدة لقصيدتها. على صعيد ما أضافه الديوان الجديد لمسار تجربة هدى أبلان؛ فالديوان بلا شك هو امتداد موضوعي للديوان السادس في اشتغاله على الحرب، مع تطور لافت في مخاطبة الذات، وذات الشاعرة هنا هي الوطن. لكن البعد الإنساني عاد في هدا الديوان بشكل أقوى مما جاء به الديوان السابق، فنرى الشاعرة حلقت في سماوات قضايا كبرى في اشتغالها على همومها العامة، من خلال مخاطبة أناها؛ وهُدى، كما هي في دواوينها السابقة، لا تستطيع الفصل في قصائدها بين همومها العامة والخاصة.. أقصد بين ما هو عام وما هو ذاتي؛ وهو أمر يدركه ويشتغل عليه الشاعر الجيد، لكن ما يحسب لهُدى أيضا هو القدرة على التكثيف الفلسفي في تعاطيها مع الصور تعبيرا رمزيا عن أفكارها وآرائها.. تقول: حين توارى خلفَ الرؤيةِ/ وغمرتهُ السكينةُ الأبديةُ/ فُتحت أمامهُ شبابيكُ الحسرة/ لهُ أن يحطُ على راحةِ الحلمِ/ كأي منقار سماوي/ يلتقطُ السؤال/ مغمورا بألوانِ الدهشةِ/ داخلا في اللوحةِ الباهتة/ تلك التي يُسمونها بلادَ ما بعد السعادة.

في الشعر يمكنك أن تقول في قصيدة ما قد يقوله الآخرون في كتاب… فالقصيدة اختزال مختلف يحمل المتن على بلورات لفظية صورية رمزية، تقول خلاصة الرؤية في تعاملها مع المشكلة الكامنة في الواقع… وهنا تشتغل هدى أبلان في موضوعاتها منفتحة على عوالم إشكالات بلدها وعالمها، متميزة بقدرتها على تأطير رسائلها شعريا؛ فتتجدد قراءاتها، وتتنوع رسائلها، ولا تستقر على معنى، ومَن يُجيد هذا هو شاعر مقتدر:

كانت لي قدمان/ركضتُ بما يكفي/ لانُسجَ خارطتي الممتدةَ/ وجوها من دموعٍ/ وأمكنه من خرابٍ/ وما بينهما خطوطُ خبرٍ/ تؤرخ للحب لحظةَ مطفاة/ وللحربِ متوالياتٍ من الاشتعال..

لا تغادر هدى الحرب إلا لتروي ذكريات الحزن والألم من خلال مشاهدات الدموع في الوجوه والخراب في الأمكنة. تبقى موضوعاتها في قصيدتها متجددة في اشتغالها على متواليات حزنها على بلدها، وهي تتذكر ابتساماته في الماضي: ماذا تفعلين بيدي أيتُها العصا؟!/ تُقيمين اعوجاج التأرجح/ لإيقاعِ سنبلةٍ مثقلةٍ/ تندسينَ بين خطواتي/كشيطانٍ ثالثٍ/ تُصيخين السمعَ/ لقدمين عشقتا الدُروب/ وذابتا أسرارا في غيهبِ الظُلمات/ تتلصصينَ على الفرحِ/ وتلكزين بأعقابكِ آخرَ الابتسامات.

وتبلغ ذروة حزنها في قصيدة «عزاء غض» وفي العنوان من الدلالة الرمزية ما يوحي بما تعانيه الشاعرة في علاقتها بمأساة بلدها: أعرفُ أن العنوان ليس شاعريا /ولا يُحلق في الخيال/ ولا يشبهُ دمهُ الهاطلَ من أحلامِهِ اللبنيةِ/ ولا يضعُ وجها غضا على صفحةِ الكلام/ تتهجى ملامحَهُ كأي أبجديةٍ/ تلوكُها الأفواهُ الصغيرةُ/ تشيخُ في رمحِ النهاية.

يأتي حزن هدى في هذا الديوان مرتبطا بواقع مثقل بالخسارات، وتلجأ الشاعرة أحيانا إلى التناص في تشكيل صورها، والتعبير عنه، وإن كانت الدلالات ثقيلة الوطأة على القارئ كقولها في النص ذاته: يحدثُ لي أن أضغط على جَرَس البابِ/ فتخرجَ الأحزانُ لاستقبالي/ بعينين متورمتين منذ الأزلِ/ وسوادٍ شاخَ فوق البيوت/ قُد من قمصانهم/ واستحال راية لعزاءِ المسرات…/ ألقيتُ التحيةَ على جُبةِ الدموع/ سألتني من التالي؟/ قلتُ: أحدهم/ أرى أشلاء تبرقُ في عينيكِ/ فلا تغمضيها /كي لا ننسى لونَ الموت.

وأحيانا ينال اليأس من الشاعرة فتنعى واقعها ومعاناته، جراء الحرب لدرجة ترى أن كل شيء يدل الحرب على بلدها، وهو ما اختزلت فيه عنوان لقصيدة «أشياء تدل الحرب علينا»: المطرُ يدلُ الحربَ علينا/ يبدأ من ظمأٍ عاصفٍ في كائنات الروح/يكد في كسبِ الامتلاء/ يرتقي حبا نحو الغيمات/ ينسكبُ ليسَ أكثرَ من زخاتٍ/ سرعانَ ما تهطلُها الأمُهاتُ/ في خريف الجماجم. وتكاد تكون قصيدة «اشياء تدل الحرب علينا» هي أطول قصيدة في الديوان، بل إنها اقتطعت من الديوان أكثر من عشرين صفحة، وبلغ فيها الحزن مستوى خاطبت فيه الشاعرة عناوين كثيرة من معاناة بلدها: قد يئن الطُغاةُ/ وهم يقضمونَ تفاحةَ العمران../ يئن الضحايا وهم يتساقطونَ بينَ الأسنان.

استمرارا مع لحن الحزن خصصت الشاعرة أحد نصوص الديوان لمعاناة كورونا تحت عنوان «زمنا كورونا» وقمسته إلى قسمين: الحب، والحرية. وفي كليهما استنطقت بعض ملامح الألم الناتج عن الجائحة في بلد الحرب، وداخل ذات تتجرع الخوف بأقصى ما يكون عليه الإنسان. لتعود للحرب في نص «خدعة الأعمار» مخاطبة الأزمنة، ومن ثم تعود لداخل الذات مناجية الألم، لكنه هذه المرة ألم المرأة في نص بعنوان «احتياج». على الصعيد الفني فقد تميز البناء بقدرة الشاعرة على استخدام قاموس تجاوز ما جاءت به دواوينها السابقة؛ فحملت اللغة المعاني إلى مسافات بعيدة ومساحات واسعة، ومكنتها من طاقات تتشظى معها الصورة إلى رؤى كثيرة تتعدد معها القراءة. من أهم ما يميز قصيدة النثر هو قدرتها على التشظي المعنوي، كنتاج على الاشتغال المختلف على اللغة، وابتكار الصورة بما يحول دون الوقوع في المباشرة، وقبل ذلك تجاوز فخ السردية الذي يقع فيه عديد من شعراء هذه القصيدة.. ففي قصيدة «صورة داكنة» نلاحظ الشاعرة كأنها ترسم لوحة بلغة تصدح بالأصوات من خلال عدد من الأفعال أمثال: تعلو، تنضج، أغلق، دخلت، شاركت…تقول:

السكينةُ تعلو الشفاهَ/ فتنضج ابتسامةٌ من دفء الاقترابِ/ يشابه التحليقَ من أعلى/ حتى عتباتِ البابِ/ الذي أُغلق على أنفاسِنا/ فباركتهُ الشمسُ/ حين دخلت جلدَنا/ وشاركتنا كَسرةَ الارتعاش.

بالقدر الذي نجدها لا تغلق النص نجدها أيضا لا تفتحه للمعنى المباشر؛ فيأتي النص مسيجا منفتحا في آن على آفاق قراءة لا حدود لها… وتلك مهمة الشاعر. على الرغم من الامتداد الموضوعي لكلا الديوانين؛ فثمة تطور تحقق للشاعرة في علاقتها بالصورة الشعرية التي جاءت بمستوى ابتكاري أكثر إدهاشا في هذا الديوان مقارنة بالديوان السابق: نحن/ حين أسدلوا على الأرضِ ستائر الغيابِ/ لم يبقَ لنا من معجمِ الفن/ غيرُ البرزَخ../لوحتُنا الأخيرةُ/ نسيَها الرسامون في ذيلِ أخطائهم/ وعلقوها أدنى الأضواء.

نراها حين نذهبُ أسفل المنحدرِ/ تؤطرنا كغرباء/ ومعنا أعداؤنا الطيبون/ الذين أوصلونا سريعا هناكَ/ لقدرتهم على تفخيخِ لغة الجدلِ/ والزج بالألسنة في أخدودِ الصمتِ/ بما يليق بعشرة آلاف سنةٍ من الكلام.

نلاحظ كيف تمكنت الصورة المبتكرة واللغة المختلفة والمكثفة من تجاوز فخ السردية على ما فيها من سرد، لكنه سرد يحلق في فضاءات شعرية تقدم لوحة تتجدد رؤيتها وفكرتها وتنضج حد الإدهاش.

بدأتْ هدى، التي تشغل موقع أمين عام اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، كتابة الشعر في ثمانينيات القرن الماضي، وظهرت في ديوان «ورود شقية الملامح» في عام 1989، وبعد ثماني سنوات وتحديدا في عام 1997 أصدرت ديوان «نصف انحناءة» وفي عام 1998 صدر لها ديوان «محاولة لتذكر ما حدث» وهو الديوان الفائز بجائزة إبداعات المرأة في الأدب في الشارقة في العام نفسه، وفي عام 2000 صدر لها ديوان «اشتماسات» وفي عام 2010 صدر ديوانها الخامس «اشتغالات الفائض».. وبعد 11 سنة صدر ديوانها السادس «كي لا تتسع ضحكة الجحيم»… ليمثل ديوانها السابع تحولا في زمنية الإصدار، وفي الوقت ذاته تكريسا لخصوصية تميزها الشعري.


القدس العربي