ريس عروج.. أسطورة النضال البحري العثماني
اشتهرت شخصية "خضر" الملقب بـ "خير الدين بربروس" باعتبارها علامة بارزة في تاريخ البحرية العثمانية، وبربروس ليس اسما ولكنه صفة تعني باليونانية "ذو اللحية الحمراء"؟
ما لا يعلمه الكثيرون أن لقب بربروس لم يكن يخص "خضر" أو خير الدين وحده، بل سبقه إلى هذا اللقب أخوه الأكبر "عروج"، فلما مات الأخير ورث خضر عنه ذلك اللقب.
والسبب في أن شخصية خضر هي الأشهر، أنه عاش فترة طويلة بعد استشهاد أخيه عروج، قضاها في الأعمال الحربية الكثيرة التي تسيّدت بها الدولة العثمانية البحر الأبيض المتوسط، وإلا فإن عروج هو صاحب المسافات الأولى في هذا الطريق الطويل من الكفاح البحري ضد القوات الصليبية المتمثلة في الإسبان وحلفائهم.
البداية كانت عندما فتح السلطان محمد الفاتح جزيرة ميديلّي، وأمر بعضا من قواته بالاستيطان في الجزيرة، كان منهم "يعقوب" ذلك الشاب من الخيالة الذي تزوج من إحدى الفتيات فيها، فأنجبت له أربعة أبناء، هم: إسحاق، وعروج، وخضر، وإلياس، كان شغلهم جميعًا بالتجارة في بادئ الأمر، حتى حدث ذلك التحول الخطير في حياتهم، والذي بدأ مع خروج عروج بطل هذه السطور مع أخيه الأصغر إلياس في التجارة إلى طرابلس الشام.
صادف عروج وأخيه في الطريق إلى طرابلس فرسان جزيرة رودس الصليبيين، فدارت بين الجانبين معركة، استشهد على إثرها إلياس، واقتيد عروج أسيرا إلى ردوس.
فشلت محاولات خضر في افتداء أخيه من الأسر، وكان عروج يعامل من قبل سجانيه بأبشع أنواع المعاملة حتى ضاقت الدنيا في عينه، ثم حدثت انفراجة يسيرة، حين أخرجوه من الزنزانة للعمل بالسخرة في التجديف على متن إحدى سفن فرسان رودس.
في تلك الفترة كان الأمير العثماني "قرقود بن السلطان بايزيد" واليا على أنطاليا في زمن أبيه، وكان يفتدي بأمواله كل عام مائة أسير تركي من فرسان رودس، وفي هذا العام اتفق حاجبه معهم على أن يتم نقل الأسرى في سفينة رودسية إلى سواحل أنطاليا، فقاموا بفرزهم ونقلهم على متن السفينة التي كان يجدف عليها عروج، ولم يدرجوا اسمه في القائمة لأنهم يعرفون قيمته، وحاولوا استمالته إلى دينهم إلا أنه رفض بشدة، بل كانوا يحذرون من الحديث معه خوفًا من أن يتأثروا بكلامه الحُلو ومعرفته بالإسلام فيدخلوا في دينه.
بعد أن أوصلوا الأسرى إلى أنطاليا وفقا للصفقة المبرمة، استطاع عروج تخليص نفسه من القيود، ورمى بنفسه في البحر، وسبح إلى أن وصل قرية تركية، ونزل بضيافة امرأة عجوز قامت بإكرامه.
وفي طريقه إلى قلعة ميديلّي قابل رجلا شهيرا يدعى "علي رئيس"، عمل معه على سفينته التجارية حتى أصبح قبطانا ثانيا لها، ولما وصل بها إلى مدينة الإسكندرية في مصر، أرسل إلى أخيه خضر يقص عليه قصة نجاته فسُر لذلك.
في هذه الفترة تمكن البرتغاليون من اكتشاف الطريق إلى الهند عبر الالتفاف حول إفريقيا، وقاموا بالإغارة على السفن الإسلامية القادمة من الهند، والاعتداء على سفن الحجاج وقتلهم، والإغارة على السفن بالبحر الأحمر، فعمل سلطان المماليك في مصر على إقامة أسطول قوي، وعرض على عروج أن ينضم إلى قيادة القوات البحرية لهذا الشأن.
وإثر ذلك خرج عروج في 16 سفينة إلى ميناء "باياس" لجلب الأخشان اللازمة لبناء السفن، فلما علم فرسان رودس أن عروج صار قائدا للبحرية أغاروا عليه حتى انسحب إلى داخل الأراضي العثمانية، وصرف رجاله إلى بلادهم، وعاد هو إلى أنطاليا وصنع سفينة لها 18 مقعدًا، أغار بها على سواحل رودس ولم يعطهم الفرصة لالتقاط أنفاسهم من كثرة عملياته الحربية.
انطلقت سفن رودس في تعقبه حتى استولوا على سفينته بينما تمكن هو من الفرار، وتزامن ذلك مع تولي الأمير العثماني قورقود ولاية ساروخان، فتوسط لديه خازن له على معرفة بعروج، وشجعه على أن يمده بسفينة يستعين بها على غزو الصليبيين المعتدين.
كانت شهرة عروج قد بلغت الآفاق، فدعاه قورقود واحتفى به، ثم كتب إلى والي إزمير بصناعة سفينة حربية من نوع "قاليته" ذات 20-25 مقعدا، فاستلمها عروج، ومعها سفينة أخرى مملوكة لخازن الأمير قورقود، ودخل بهما معركة في سواحل "بوليا" ضد سفينتين من البندقية، تبعتها معركة ثانية في مياه جزيرة "أغريبوز" ضد ثلاثة سفن من البندقية أيضا، فاقترب بسفينتيه منها، ثم قفز رجاله إلى تلك السفن وسيطروا عليها، وذهبوا بالغنائم إلى ميدلّي وسط احتفال كبير من الجماهير، وكان في استقبال عروج شقيقاه خضر وإسحاق.
وقبل أن يتوجه عروج إلى الأمير قورقود الذي احتضن نضاله البحري، تولى سليم الأول الحكم، ونتيجة للخلاف بينه وبين قورقود، نزح عروج إلى الإسكندرية، ثم بعد فترة خرج للغزو، وظل يشن الغارات على السفن الصليبية، ثم اتجه بعدها مع أخيه خضر إلى تونس لتكون قاعدة انطلاق نحو هجماتهم على سفن الأعداء، وشنوا مع رجالهم غارات بحرية على سفن الإسبان، حتى ذاع صيتهما أكثر.
ذات مرة تجهز أسطول إسباني للقضاء على عروج وأخيه، والذي ناور بسفنه، ثم أمر بعودة السفن لشن هجوم خاطف على السفن الإسبانية في جرأة يحسد عليها، فسيطر على الموقف، واعتصمت بعض السفن الإسبانية في قلعة بجاية في الجزائر، وكادت قواته أن تستولي على القلعة، إلا أن قذيفة أصابت عروج في ذراعه الأيسر، فعادت قواته إلى تونس، وأجمع الأطباء على بتر ذراعه فاستجاب راضيا محتسبا.
وبعد أن استرد عافيته ركب البحر صوب السواحل الإسبانية بعد سقوط غرناطة والتنكيل بالمسلمين، فقام مع أخيه بنقل عدد كبير من المسلمين إلى تونس والجزائر، وتوالت الانتصارات التي حققها عروج وأخوه، وهمّ عروج بأن يتزوج إلا أن شغفه بالغزو والبحر قد جعله يعدل عن الفكرة، وشرع في تقوية أسطوله البحري ببناء مزيد من السفن القوية وتجنيد المتطوعين.
وشهدت هذه الفترة بداية متانة العلاقات بين السلطان العثماني وبين آل بربروس، وقاما بإرسال البحّار والجغرافي المعروف بيري رئيس، إلى السلطان سليم في إسطنبول بالسفن المحملة بالهدايا تعبيرا عن الولاء، فوفقا لما ذكره خير الدين بربروس في مذكراته الشهيرة، رفع سليم يديه داعيا: "اللهم بيّض وجه عبديك عروج وخير الدين في الدنيا والآخرة، اللهم سدد رميهما واخذل أعداءهما وانصرهما في البر والبحر".
ثم أمر السلطان بإصلاح سفن قوات عروج وخضر، وتزويدها بما تحتاج إليه من معدات، وأمر ببناء سفينتين حربيتين من السفن الكبيرة لعروج وأخيه، مشحونتين بكمية كبيرة من القذائف، وقلد الأخوين سيفين ونيشانين من النياشين الفاخرة، ومنذ هذا الوقت دخل عروج وأخوه تحت مظلة الدولة العثمانية رسميا في الغزو البحري، وأرسل سليم خطابا همايونيا إلى حاكم تونس يأمره بتقديم كل الدعم لعروج وأخيه وعدم التقصير في ذلك.
استمر عروج في إنقاذ المسلمين في الأندلس، واستجاب مع أخيه خضر لنداءات سكان ميناء بجاية الجزائري من بطش الإسبان وكانت واقعة تحت سيطرتهم، وقاموا بفتحها بعد معارك ضارية، ثم بعثا جزءًا من قواتهما إلى أسطول السلطان سليم الأول في الإسكندرية في أعقاب الفتح العثماني لمصر، ثم عادت هذه القوات إلى مركز قيادة عروج وخضر بعد أن زودهما السلطان بالجنود والمدافع.
جيّش الإسبان سفنهم لاسترداد مدينة الجزائر من عروج، والذي جعل يعبئ قواته، وكبد القوات الإسبانية خسائر فادحة، ورفع الراية العثمانية احتفالا بالنصر، وكانت فضيحة مدوية لملك إسبانيا كارلوس.
بعد أن ثار أهل تلمسان على حاكمها الممالئ للإسبان، نادوا بعروج، فأصبح حاكما للمدينة الجزائرية، ما أثار فزع الإسبان، والذين زحفوا إليه في مدينة تلمسان، ولم يكن معه سوى ألف جندي، لأنه أرسل بقية قواته لتأمين مدينة الجزائر.
اجتمعت عشرات الآلاف من قوات الإسبان والملك الخائن، واستولوا على تلمسان، فيما جمع عروج قواته خارج القلعة واجتمع بقوات أخيه إسحاق التي أرسلها خضر، فانتصر على الإسبان واستعاد القلعة، فأرسل كارلوس تهديدا إلى حاكم وهران بضرورة القضاء على قوات عروج وإرساله إلى إسبانيا حيًا، فسار حاكم وهران لقتال عروج في ثلاثين أو أربعين ألفا، وحاصروا القلعة.
لما يئس حاكم وهران من فك الحصار نتيجة استبسال قوات عروج، عرض على الأخير أن يأخذ قواته بكامل أسلحتها ومؤنها ويتركوا القلعة ويرحلوا في أمان، فاستشار عروج رجاله فاختاروا ما عُرض عليهم، خاصة وأنه سوف تكون لديهم فرصة أخرى لمعاودة الاستيلاء على القلعة.
لم يكد عروج يخرج برجاله حتى تبعتهم قوة كبيرة من الإسبان ما بين 15 إلى 20 ألفا، واستبسل عروج وجنوده وسقط أكثرهم شهداء، ولم يكن عددهم يتجاوز 400 جندي.
وصل عروج ومن معه إلى النهر وهموا بأن يلقوا أنفسهم فيه ليسبحوا حتى ينحازوا إلى جنود مدينة الجزائر ثم يعودون إلى تلمسان، وبالفعل قفز نصفهم في الماء، إلا أن الإسبان قد أدركوا البقية، فلم يتحمل عروج استغاثة جنوده الذين أدركهم الإسبان، وكانوا ينادونه "بابا عروج"، فعاد يشق صفوف الإسبان، ويطيح فيهم بسيفه، حتى قيل إنه قتل مائة إسباني قبل أن يقتلوه ويجزوا رأسه ويحملوها إلى كارلوس.
كانت هذه نهاية هذا البطل الفذ، والذي انطلق أخوه خضر من بعده يكمل المسيرة في الغزو والنضال تحت راية الدولة العثمانية في زمن السلطان سليمان الذي خلف أباه على الحكم، وهو الذي طلب من خضر أن يكتب هذه المذكرات ليذكر فيها جهاده هو وأخيه عروج.
حاول الغرب تشويه صورة عروج واعتباره مجرد قرصان يسرق السفن، لكن الحق الذي يعرفه كل منصف حتى وسط الأوروبيين، أنه صاحب قضية، حمل على كاهله حماية المسلمين والتصدي للتعصب الصليبي وغاراته وهجماته على المصالح الإسلامية.
وإن نسبة عروج وكفاحه لراية الدولة العثمانية أمر ظاهر، فمن قبل أن تتولى الدولة العثمانية قيادة العالم الإسلامي كان الأمير العثماني يدعم عروج ويبنى نضاله، وما إن تولى العثمانيون قيادة الأمة بعد السيطرة على مصر والشام في عهد سليم، حتى أصبح عروج وإخوته يعملون تحت رعاية ودعم الدولة العثمانية.