رواية "مُلتقى البحرين".. هل كرر وليد سيف نفسه؟
يُعتبر الكاتب الفلسطيني الدكتور وليد سيف أحد أبرز وأهمّ كُتاب الدراما التاريخية، وهو شخصيةٌ غنيّة عن التعريف، نظرًا للأعمال الدرامية التي كان قد كتبها فحققت نجاحات واسعة، ومنها نذكر "ربيع قرطبة" و"ملوك الطوائف"، كما تميّز وليد سيف في كتابته لمسلسل التغريبة الفلسطينية، وهو أحد أهم الأعمال التي قدمها وليد سيف وأكثرها تأثيرًا، إضافة إلى مسلسل "عمر بن الخطاب"، والمتابع لأعماله يستطيع أن يرى مدى روعة ما يقدمه، ويلمس ذلك من خلال السيناريو المكتوب بلغةٍ بديعة، تجذب المشاهد منذ اللحظةِ الأولى، وتضعه أمام تحفةٍ فنيّة تجعل سطور الكتب التاريخية قصيدةٍ يستعذبُ معانيها وكلماتها كلُّ من دقّت سمعَه.
أصدر الدكتور وليد سيف مؤخرًا رواية "مُلتقى البحرين"، الصادرة عن دار الأهليّة في عمّان، وتُعتبر هذه الرواية هي الرواية الأولى للكاتب، فبعد التجربة الدرامية والشعريّة ها هو يخوض تجربة الكتابة الروائية، لكننا لا نعلم ما إذا كانت ستكون الرواية الأولى والأخيرة في ذات الوقت، على أيّة حال فقد كانت الرواية عملًا مُلفتًا، وخلقت فضولًا لدى عددٍ كبيرٍ من القرّاء، وتساءلوا عن ما إذا كانت ستكون الرواية عملًا أدبيًا فريدًا من نوعه نظرًا للقدرات اللغوية و الأساليب الحكائية التي يملكها الكاتب، لذا فقد كان العمل الروائي الأول مُرتقبًا أولًا لأنه يحمل اسم أحد أهم كُتاب الدراما، والذي عُرف ببراعته اللغوية وأسلوبه المحبّب لدى جمهور كبير، ثانيًا لكونه الرواية الأولى.
تدورُ أحداث الرواية في زمنِ تفرّق دول العالم الإسلامي إلى مماليك، في القرن السابع الهجري، وقد جرت أحداثها في إحدى هذه المماليك التي يحكمها سلطان ظالم، لا يأبه بشؤون رعيّته ولا يحفظُ أمن البلاد ولا سيادتها، بل قام بالتقليل من هيبة الدولة بالتهادن مع العدوّ خوفًا من خوضِ الحروب، فقد كان الجيشُ بلا عُدة ولا عتاد، فقد كان السلطان يُنفق أموال الشعب والدولة على ملذّاته ومتعه الرخيصة، حتى قام قائد الحرس بالانقلاب عليه، ونجحوا في إسقاطه، ونُصّب قائد الحرس سلطانًا، وأخذ يسترجع ما سُلب من الأراضي التي احتلّها العدوّ، ويخوض الحرب تلو الأخرى محرزًا انتصارًا يتبعُه آخر، إلا أن السلطان الجديد لم يكن يأمن غدر من حوله، بسبب طمع كل من عاونه في الانقلاب بالسلطة والجلوس على عرش السلطنة، فبثّ العيون والجواسيس بين أفراد الشعب حتى لم يعد يأمن الأخ أخاه، خوفًا من التفوه بكلمةٍ تكون سبب هلاكه عند السلطان، فأهمل شؤون العامة وانشغل بحروبه وحكمه الذي كان يخشى عليه من انقلابٍ آخر!
وقد تعرّضت بطلة الحكاية، الجارية "قمر" لبطش السلطان الجديد، فقد قتل جنوده والديها وأخذوها سبية وجعلوا منها جاريةً تُباع وتُشترى، وتعلّمت قمر فنون الأدب والغناء والعلوم، وقد كان من المعروف أنه كلما زادت مواهب الجارية وميّزاتها غلا ثمنُها، وقد ذاع صيتُ قمر حتى اشترتها زوجة السلطان لتهبها لزوجها كهديةٍ بمناسبة عودته من إحدى الحروب منتصرًا، إلا أن قمر كانت من الناقمين على السلطان، كما كان يربطها حُب لمعلّم الفنون والأدب، وقد كان المعلم يُعد لثورةٍ مع رفاقه للإطاحة بحكم السلطان الجديد، فلا يجد إلا أن يجعل من قمر عينه وأذنه في قصر السلطان، لكن بعد دخول قمر للقصر تنقلب الموازين وتقع في صراعٍ بين حمايةِ السلطان وبين تمكين الثوار منه، وهنا يكمن جوهرُ العمل.
إن رواية مُلتقى البحرين تحملُ العديد من الدلالات التي ترمي للواقع الذي نعيشه، ففي ظلّ الصراعات التي يمرّ بها العالم نجد هناك دائما من لا يستطيع أن يُحدد موقفه للوقوف مع أحد أطراف النزاعات، فنجد نتيجة لذلك سياساتٍ متقلّبةٍ كتقلّب الليل والنهار، لا ندري أيهما يجانب الصواب وأيهما يُقاربه، وقد مثلت قمر الحالة البرزخية التي يقع فيها المرء بين أمرين، ويعيش حالة من الصراع والشتات الفكري ولا يدري ما الذي عليه أن يختاره، خصوصًا حين تصطدم مشاعر القلب بما قد يمليه العقل، فيلتبس الأمر على رجال السياسة أو رجال الدين، أو حتى الحكام أو رجال الثورة أنفسهم، وبالطبع هي حالة تنطبق على ما عظم من الأمور أو صغُر ولا يسلمُ أي منا من الوقوع فيها أيا كانت مكانته.
"كأن بعضها يُنازع بعضها، فلا تدري على أي جنبٍ تميل بينما تتجاذبها الرياح من كل جانب. ليتَ الحياة خيارٌ بين الحب الخالص والكره الخالص، أو بين الليل الحالك والنهار الواضح!".
إن رواية ملتقى البحرين ذات أسلوب لغويّ مُحبب، لكنه الأسلوب المعتاد للكاتب ولم يختلف عن أسلوبه الدرامي في الأعمال التلفزيونية التي قدمها، حتى أنه قد يُخيل للقارئ بأنه عملٌ درامي لم يُكتب له أن يتمّ بصورةٍ تجعل منه عملًا تلفزيونيّا، فكان رواية أشبه بنموذجٍ مصغّر لما سبق من أعمالٍ تاريخية صيغت بأسلوب حكائي أدبيّ جيّد.
وبالنسبةِ للحكاية وجوهرِ الأحداث المحبوكةِ فيها والصراع الذي قامت عليه، فأجدها أحداثًا بحبكةٍ مُستهلكة، فهناك ما لا يُعد ولا يُحصى من الحكايات والأعمال الروائية والدرامية التي تدور أحداثها في قصور السلاطين والخلفاء أبطالها الجواري، إلا أن ما يجعل كل عملٍ مختلفٍ عن الآخر هو التفاصيل الدائرة في داخل العمل نفسه وكيفية ربط الأحداث وتعدد الحكايات والشخصيات ووصلها ببعضها لتصل في النهاية إلى مركزية ما، وهو ما افتقره العمل فركز على شخصياتٍ ثلاث قامت أحداث الرواية وانتهت دون تدخلات من أي أطراف أخرى.
وإن حدثت فهي قصيرة المدى وليست ذات تأثير، ولا تجعل العمل أكثر تشويقًا وإثارة، فلم أرها سوى حكايةٍ مكررة كُتبت على عجل كاستعراضٍ لقدرةٍ لغوية في سردِ حكاية، وقد كان ذلك واضحًا في الحوارات التي دارت بين السلطان والجارية والمعلم، وبلا شك فقد كانت حوارات غنيّة لغويًا وممتعة إلى حد ما، خصوصا ذلك الجزء المتعلق بالحبّ بين المرأة والرجل وهو حوار اللقاء الأول الذي دار بين السلطان وقمر. إلا أنني أرى أن الكاتب وليد سيف في روايته الأولى قام بتكرير نفسه، ولم يظهر لنا أي جديد، فالرواية تشبهه تمامًا ولم يقم بمفاجأتنا بعملٍ منقطع النظير، ولم يأخذ بأيدي قرائه إلى ما هو أبعد من حكايات التاريخ في خيَم الصحراء أو بين جدران القصور، لكنها بالطبع رواية جميلة ومثله يُقرأ له