نزار قباني و"عقدة" نجيب محفوظ

في أعقاب توقيع اتفاقية أوسلو للسلام 1993، وقع اشتباك محدود بين الشاعر نزار قباني 1923- 1998، والروائي نجيب محفوظ 1911- 2006، على خلفية قصيدة نزار "المهرولون" التي انتقد فيها إقدام العرب على مصالحة إسرائيل. 


محفوظ، في حوار مع الصحافة، أبدى تقديره لشاعرية نزار، ووصف القصيدة بأنها "قصيدة قوية جداً، وتفرقع مثل القنابل في وجه عملية السلام، لكنها لا تقدم بديلاً".


وأكد محفوظ إعجابه بالقصيدة برغم اختلافه مع الموقف السياسي فيها، ولخص رأيه بالقول: "قصيدة قوية فنياً، لكنها تدافع عن موقف ضعيف". 

 

نزار قال لنفسه: "يا أهلاً بالمعارك"، أو ربما قال: "لقد نجحت في تسلق قمة إفرست" وراح يكتب رداً شخصانياً عنيفاً، وصف فيه محفوظ بأنه مهادن ومسالم وأنه "يشبه حكومة الظل في بريطانيا".


انتهى الاشتباك عند هذا الحد، ولم يتحول إلى حرب استنزاف كحرب الرافعي والعقاد. فنجيب محفوظ كان في المستوى الإنساني، كما وصفه نزار تماماً: "رجل السلام والسلامة، ولم يعرف عنه أنه تشاجر ذات يوم مع أحد. وأنه رجل اللاعنف الذي يمسك العصا من منتصفها".


نجيب محفوظ ضرب صفحاً عن الهجمة النزارية، لأنه كان أذكى من نزار بمراحل، وأغلق باب النقاش العلني مع نزار. وظن نزار بنرجسيته الخرقاء أنه انتصر على مؤلف شخصيات "الزعبلاوي" و"الجبلاوي" و"الدرملّي" و "الصناديقي" التي حيّرت النقاد في تعدد طبقاتها.


لم يرغب محفوظ في شخصنة الخلاف الموضوعي مع نزار، ولو أراد لطحَنه طحْن الشعير، كما فعل بكاتب اسمه صالح جودت، كان شاعراً وإعلامياً معروفاً في عهدي عبد الناصر والسادات، وبرغم علاقة الصداقة التي جمعته بمحفوظ، إلا أنه كان متقلباً في مواقفه منه، حتى ضاق محفوظ به ذرعاً، فأطلق عليه ساخراً لقب "الشاعر الفسدقي"، وشاع اللقب حتى صار أشهر من الاسم. 



لو أرادها محفوظ حرباً علنية ضد نزار لما أعيته الكلمات، لكنه اختار أن يصفي حساباته من خلف أقنعة، ومن داخل الظلال. ووحده التاريخ ما حمى نزاراً، وأبقى محاضر جلسات الحرافيش طي الكتمان. 


ولم تكن هذه المرة الأولى التي يتطاول فيها نزار على محفوظ، فقد سبق لنزار أن كتب مقالة عن محفوظ عقب فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1988.

المقالة نشرتها جريدة الأهرام المصرية. وفيها يقول نزار عن محفوظ: "ولديه بدلتا (سفاري)، واحدة ينام فيها، وواحدة يستحم فيها".


الغريب أن هذه العبارة المهينة جاءت في سياق تهنئة نزار لمحفوظ بمناسبة فوزه بالجائزة. ولكن الحطيئة نفسه يبدو أقل لؤما وخبثاً من نزار، وهو يغلف هجاءه للزبرقان بن بدر التميمي بصيغة المديح في قصيدته الشهيرة التي يقول فيها:  "دعِ المكارمَ لا ترحل لبُغيتها   واقعُدْ فإنكَ أنتَ الطاعمُ الكاسي" 



والأغرب في مقالة نزار أنه يمدح محفوظ بالعبارات نفسها التي سيذمه فيها بعد سنوات قليلة، وتتطابق الصورتان اللتان يرسمهما نزار لشخصية محفوظ في المديح والذم.


ففي مقالة التهنئة يرسم نزار البورتريه التالي لشخصية محفوظ وحياته: "يقيم صداقات مع بائع الجرائد، وبائع الحليب، وصبي الجرائد. ويقف بالطابور أمام بائع الفول. تلميذ مجتهد يكتب فروضه المدرسية بانتظام، ناسك يؤدي الصلوات في أوقاتها، مجاور يجلس تحت أعمدة الأزهر. قديس يلبس جلّابية بيضاء، ويتجول في الشوارع الخلفية، ويسجل في دفتر صغير آهات المتأوهين". 


وفي مقالة الذم يعيد نزار رسم البورتيه نفسه لنجيب محفوظ: "رقيق كنسمة الصيف، وحريري في صياغة كلماته، ورسولي في سلوكه على الورق. وفي الحياة لا يسمح لنفسه أن يجرح حمامة، ولا أن يدوس على نملة، أو يغامر، أو يسافر، أو يغادر زاويته التاريخية في حي سيدنا الحسين. ولا يُعرف عنه أنه تشاجر ذات يوم مع أحد، أو مع رجل بوليس، أو وقف في وجه حاكم أو أمير أو صاحب سلطة. ودائماً يلبس قفازات الحرير في خطابه الاجتماعي والسياسي".


يبدو الموقفان النزاريان، المتعاكسان ظاهرياً، موحدين في الهوس بنمط حياة محفوظ، هوس يشمل ملابسه، وروتين حياته، وانشغالاته اليومية، والفضاء المكاني الذي يعيش فيه. ويرسم له صورة أقرب ما تكون إلى لوحات الرسامين الأوروبيين الاستشراقيين المفتونين بسحر الشرق، وأجواء ألف ليلة وليلة. وكأن نزاراً غريب عن المجتمع العربي، ولم يدخل في حياته حياً شعبياً في دمشق أو أي مدينة غيرها من المدن العربية.


وفي عبارة بالغة الدلالة يلصق نزار "عقدة الخواجا" بمحفوظ، ويذكرنا بالنموذج الذي أبدعه الطيب صالح في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" في شخصية مصطفى سعيد.

 

تقول العبارة: "هذه الليلة نحتفل بزواج واحد من كبار مبدعينا، العريس فتى أسمر من مصر اسمه «نجيب محفوظ» والعروس فتاة سويدية شقراء لا تعرف من اللغة العربية إلا كلمة «وحشتنى»". 


إن استخدام هذا التشبيه النمطي، المستعار من الأدب العربي القديم، الذي يربط الفتوحات العسكرية بالفحولة الجنسية، ما هو إلا تعبير عن تصور مريض بالدّونية يسقطه نزار على محفوظ، ويتناقض مع عباراته الطافحة بالمديح الممجوج، والتي يقول فيها إن الجائزة لا تعدّ مغنماً لصاحب القامة الأدبية السامقة. 

وفي عبارة أخرى يقول نزار: "محفوظ يكره النجومية والملابس المسرحية، ولو استطاع أن يذهب إلى ستوكهولم ليتسلم الجائزة وهو بالبيجاما لذهب".


وقد يفهم من هذه العبارة التكبير من شأن محفوظ، ولكنّها تنمّط شخصيته في قالب من صنع نرجسية نزار، وتتجاهل رغبة محفوظ بالسفر لاستلام الجائزة بنفسه لولا ظروفه الصحية التي حالت دون سفره.

 

وليس الإيحاء بأن محفوظ أكبر من جائزة نوبل، إلا تعبيراً ملتوياً وخبيثاً عن رأي نزار الحقيقي بأن محفوظ لا يستحق الجائزة.  


ينظر نزار نظرة تعالٍ نحو محفوظ، ولا يرى فيه إلا بساطة البيئة الشعبية، وقناعة ابن البلد بواقعه، ونصيبه من الدنيا، وقبوله بما قسمه الله له من ظروف عيش وأنظمة حكم.


وحين يعطي محفوظ رأياً في قصيدة نزار، ينعى عليه نزار هذا الحق، انطلاقاً من ذات النظرة المتعالية، التي ترى أن محفوظ أجهل من أن يفهم الشعر ووظيفته الفنية والسياسية: "هذا الموقف السكوني الكلاسيكي في طبيعة أستاذنا الكبير، هو الذي جعله ينتفض كعصفور عندما قرأ قصيدتي (المهرولون)..

 

فهو لم يعتد في تاريخه الطويل على قراءة القصائد المجنونة التي تصرخ كالقطط المتوحشة في ليل الانحطاط العربي..

 

أستاذنا نجيب محفوظ قمة روائية لا يجادل فيها أحد، لكن نظرته إلى الشعر نظرة ساذجة ملتبسة تحتاج إلى بعض التصحيح".

ومن الملفت للنظر، تشبيه نزار لمحفوظ "بالعصفور" مرتين، الأولى في مقالة التهنئة حين قال: "إنه يرتبك أمام فلاشات المصورين، كما يرتبك العصفور أمام صياديه"، والثانية حين قال إنه" انتفض كالعصفور عندما قرأ القصيدة".

وهل يكشف تشبيه محفوظ بالعصفور في سياقين مختلفين، إلا عن استضعاف نزار له، واستخفافه بقدرة الروائي الكبير على المواجهة والخروج من "بيئته الضيقة" إلى العالم الواسع؟  

والأكثر غرابة أن نزاراً الذي يخلط الشعري بالسياسي في قصيدته، يأخذ على محفوظ خلطه الشعري بالسياسي في تعليقه عليها "خلط الروائي الكبير بين القصيدة وبين الموقف، فامتدح القصيدة جمالياً وهجاها إيديولوجياً". والحقيقة أن محفوظ أقام حجته على الفصل بين الجانبين.


وتكشف العبارة، التي اختتم بها نزار مقالة التهنئة، عن حقيقة رأيه في محفوظ "وفي رأيي أن أخلاق نجيب محفوظ، ونقاءه الروحي، وطهارته الداخلية والخارجية، هي التي ربحت جائزة نوبل، قبل أن تربحها أعماله الأدبية". 


خلط نزار السم بالعسل في هذه العبارة، بإصراره على الشخصنة، وتقديمه العوامل الشخصية على العوامل الأدبية في تجربة محفوظ، واستخدامه عبارات إنشائية لا تعني شيئا محدداً، يعلي فيها من مقام محفوظ الإنسان، ليحط من قدر محفوظ الأديب. 


لم يذكر نزار مثالاً واحداً من أعمال محفوظ الأدبية الكثيرة، إلا قوله: "إن محفوظ واحد من أولاد حارتنا"، ولم يقل "صاحب" أولاد حارتنا. فهل قرأ نزار الرواية، وهل فهم رمزيتها؟ ولماذا خلت كلمات نزار من الإشارة إلى دور محفوظ التنويري في الثقافة العربية، وجهوده التأسيسية والتجديدية في الرواية العربية؟


إن جوهر النظرة النزارية إلى محفوظ تضعه في نفس المستوى مع أبناء البلد البسطاء، الذين يصر نزار على حشر محفوظ معهم، فهو لا يعدو أن يكون بائع فول أو حليب أو جرائد اتفق أنه حصل على الجائزة الكبرى في اليانصيب.