استثمار التوتّرات الجيوسياسية في اليمَن

يشكّل تصاعد التوتّرات الجيوسياسية بتداعياتها الاقتصادية تحدّياً جوهرياً على المجتمعات المحلّية، بدءاً من ارتداداتها على الوضع المعيشي إلى تحدّيات الأمن الغذائي، فإلى جانب الصراع في منطقة الشرق الأوسط، التي تلقي ظلالها على المعادلة الاقتصادية، تتصاعد الحرب الروسية الأوكرانية، التي قد تضاعف الضغط على إمدادات القمح والنفط في العالم، فضلاً عن تبنّي القوى الكُبرى سياسات احتكارية تعزّز من سيطرتها على الأسواق العالمية.


وتتجاهل في المقابل، عواقبَ سياستها على المجتمعات الفقيرة، وأسوة بمجتمعات أخرى، يواجه اليمنيّون هذه المخاطر، إلى جانب تحدّياتٍ مركّبة من الحالة الاقتصادية التي رسَّختها سنوات الحرب، وتداعيات الصراع في الشرق الأوسط، الذي يشكّل اليمن فيه ساحةً إسناديةً، فضلاً عن استثمار سلطات الحرب الأزمات الإقليمية والدولية.


على المستوى المحلّي، تتفاعل التوتّرات الجيوسياسية بتداعياتها الاقتصادية مع الأزمة الاقتصادية المتجذّرة، وأيضاً نتائج السياسيات الاقتصادية التي رسَّختها سلطات الحرب، بما في ذلك كياناتها وأنظمتها، إذ إن عشر سنوات من الحرب لم تقوّض الدولة المركزية فقط، على المستويَين المؤسّسي والوظيفي، بل قوّضت أيضاً سيادة الدولة على الموارد مع شحّها، في مقابل هيمنة قوىً متصارعةٍ على الموارد، وسبل إنفاقها.


إلى جانب تبعاتٍ لا تقلّ خطورةً، وهي انقسام المؤسّسات الاقتصادية، التي يتضمنها انقسام القوانين التي تنظّم الحركة التجارية من الاستيراد إلى التصدير، وأيضاً ضبط الأسواق المحلّية، التي رسَّخت سيطرة سلطات الحرب وحلفائها، وشبكاتها المتعدّدة على التجارة والاقتصاد، كما أن الانقسام النقدي أنتج واقعَين اقتصاديَّين تتكفّل قوى الحرب وشبكاتها بإدارتهما، من المتاجرة بالعملة الأجنبية إلى المضاربة بالعملة المحلّية، فضلاً عن استراتيجية تعميق الانقسام الاقتصادي وتحويله أزمةً متوطّنةً في ظلّ غياب أيّ معالجات على المدى المنظور.


إضافة إلى أن سلطات الحرب، إلى جانب صراعها على الموارد، وتحويل الاقتصاد أداةً في هذا الصراع، فعلت النهب المنظّم الذي يتغيّر بموجب التحدّيات التي تواجهها، ممّا أخضع اليمنيين لدورات متعاقبة من الأزمات والاستغلال، كما أن تحويل اليمن دولةً تعتمد على الهبات والقروض عوّق إمكانية التعافي الاقتصادي وتثبيت أيّ شكلٍ من التنمية المستدامة يخدم المواطنين، في مقابل ترسيخ اقتصاد طفيلي تديره قوى الحرب وشبكاتها، يتغذّى من قنوات التدخّلات والمساعدات الإنسانية، وأيضاً مفاعيل اقتصاد الحرب.


وإذا كانت هذه التحدّيات (وما تزال) تطحن اليمنيين، وتُخضِعهم لآلية منظّمة من الاستغلال، فإن الاضطرابات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، وتحوّل الممرّات المائية اليمنية ساحةً في هذا الصراع، واستمرارها، ضاعف من التحدّيات الاقتصادية التي يتكبّدها اليمنيّون.


اقتصادياً، أوجدت سلطة المجلس الرئاسي بتعدّد قواها السياسية مستوياتٍ متعدّدةً من الأزمة تنوّعت مظاهرها من التنازع على المؤسّسات الاقتصادية والتنافس على الموارد، وفي سياق الموارد أيضاً، ومع أن توقّف تصدير النفط، بعد استهداف موانئ التصدير من جماعة الحوثي قبل أعوام، قد أفقد سلطة المجلس الرئاسي سيولةً نقديةً من العملة الأجنبية.


إلا أن المجلس الرئاسي، وأيضاً الحكومة المعترف بها، لم يتبنّيا سياسةً اقتصاديةً تقشّفيةً لتغطية هذا العجز، وضاعف تضخّم نفقات سلطة المجلس الرئاسي واللجان المنبثقة منه وأجهزة الحكومة، وتقاضي المسؤولين رواتبهم بالعملة الصعبة، من إهدار النقد الأجنبي في مقابل انكشاف العملة المحلّية.


ومن جهة أخرى فإن ضلوع قوى سلطة المجلس الرئاسي، وشبكاتها، في عملية المضاربة بالعملة الأجنبية، وأيضاً تهريبها إلى الخارج، سرّع من عملية انهيار العملة المحلّية، التي وصلت أخيراً انهياراً غير مسبوق، إلى جانب أن استثمار قوى المجلس الرئاسي للأزمة الاقتصادية الحالية (اقتصادياً وأيضاً سياسياً في مقابل اعتمادها على ضخ الودائع لتثبيت سعر العملة المحلية) من دون أيّ معالجات حقيقية لوقف انهيارها.


ورسّخ حالةَ عدم الاستقرار الاقتصادي التي أفضت إلى تغذية اقتصاد السوق السوداء على حساب اقتصاد تشرف عليه الدولة، ممّا رهن الوضع الاقتصادي في مناطق "المجلس" لهذه التجاذبات، فضلاً عن تعزيز لا موثوقية التعاطي مع المؤسّسات الاقتصادية الرسمية، تمثّل باعتماد التجّار على البنوك الخاصّة لتنظيم عملية استيراد البضائع، كما أن فشل سلطة المجلس الرئاسي من خلال الحكومة في تفعيل آلية رقابية على الأسواق المحلّية، وفي ضبط الأسعار، خلق تنوّعاً سعرياً بين منطقة وأخرى لصالح شبكات الحرب ونافذيها.


يضاف إلى ذاك أن الاضطرابات الجيوسياسية ومخاطر الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن على مدى عام أسهمت في تقليص الحركة التجارية في الموانئ الخاضعة لسلطة المجلس الرئاسي، بما في ذلك التأثير في تدفّقات الغذاء والوقود.


في المقابل، إن واحدية السلطة لا تعني في حالة جماعة الحوثي تيسير حياة المواطنين، وتجنيبهم تحدّيات إنسانية واجتماعية إضافية، بل تنويع أشكال النهب والاستثمار إلى جانب فرض سياسات اقتصادية جائرة تحتكر مواردَ الدولة لصالحها، وتوظّف الاضطرابات الجيوسياسية جراء حربها قوةَ إسناد في معسكر المقاومة الإسلامية، فإضافة إلى احتكار موارد الدولة لصالح تشغيل أجهزتها المختلفة، التي حرمت موظّفي القطاع الحكومي من رواتبهم، فإنها عزّزت قبضتها على الحياة التجارية، سواء على مستوى التصدير أو الاستيراد.


ممّا ترتب عليه هجرة رؤوس الأموال الوطنية من المناطق الخاضعة للجماعة، وأيضاً ركود الحياة الاقتصادية، ومن ثمّ فقدان قطاعات من المجتمع فرص العمل، كما أن اعتماد الجماعة بدائلَ اقتصاديةً لمضاعفة مواردها، من اقتصاد الرهائن إلى اقتصاد السجناء، والأكثر أهمية رفع رسوم الضرائب على الحركة التجارية الداخلية، ممّا ضاعف أسعار المواد الغذائية في المناطق الخاضعة لها.


وإذا كانت السياسة الجبائية للجماعة ظلّت مظهراً من مظاهر إدارتها للسلطة، فإنها مارست في الأشهر الماضية آليةً أوسع طاولت جميع أوجه الحياة اليومية، للتحايل على التحدّيات الاقتصادية التي تواجهها جراء انسداد المفاوضات السياسية، وأيضاً لتلافي أثر العقوبات التي طاولت عدداً من شبكاتها المحلّية والإقليمية. 


يضاف إلى ذلك (وهو الأكثر أهمية) أن معاركها في الممرّات المائية التي تشرف عليها لإسناد المقاومة الإسلامية في قطاع غزّة ولبنان، وإن رسّخت شعبيتها، تحوّلت وسيلةً مربحةً لجني مزيد من الموارد، فبحسب تقرير الخبراء حصلت الجماعة على ملايين الدولارات جرّاء فرض رسوم على السفن التجارية في البحر الأحمر، وأيضاً وفي سياق استثمار موقعها قوةَ إسناد للمقاومة، بتبني سياسة مقاطعة اقتصادية للشركات الكبرى الموالية لإسرائيل، إذ منعت الجماعة دخول منتجات هذه الشركات المناطق الخاضعة لها، فيما سوّقت بضائعَ محلّيةً بديلةً، وبضعف أسعار البضائع المستوردة، وبالطبع لصالح الجماعة وشبكاتها التجارية.


على وقْع التوتّرات الجيوسياسية والأزمات الإقليمية والدولية، تعتمل آليات نهب اليمنيين، التي رسّخها واقع اقتصادي منقسم تديره سلطات الحرب، فيما ضاعفت اضطرابات الملاحة في الممرّات المائية اليمنية من التحدّيات المعيشية التي يواجهها المواطنون، بدءاً بانخفاض تدفّقات المواد الغذائية والوقود إلى اليمن، وأيضاً ارتفاع أسعارها، إلى تحول الداعمين الدوليين، والمنظّمات الإنسانية الأممية، أزماتٍ إنسانيةً أكثر خطورةً، كالحرب في قطاع غزّة وأيضاً في لبنان، ممّا أدّى إلى تضرّر الطبقات الأكثر فقراً.


وإذا كانت الحكومات في أيّ مجتمع تحرص على حماية الطبقات الضعيفة من الهزّات الاقتصادية، فإن قوى الحرب في اليمن، وبموازاة تجاهلها هذه التحدّيات الكارثية، خصّصت الدعم ووسائل الضمان الاجتماعي لطبقاتها، ولأُسر المقاتلين من المقرّبين منها في حالة جماعة الحوثي، ولشبكاتها ومنتفعيها في حالة سلطة المجلس الرئاسي، في مقابل استبعاد جمهور اليمنيين، لا من موارد دولتهم فقط، بل من أيّ مستوىً من الحماية يمكّنهم من العيش بكرامة أيضاً.


*نقلاً عن العربي الجديد