اليمن... معابر مغلقة
تشكّل المعابر الداخلية حدود جغرافيا سلطات الحرب، ومن ثم عتبتها التي تفضي إلى مجالها الحيوي، ومن ثم تفرض بقاء المعابر شرطاً سلطوياً لتثبيت هيمنتها، مقابل إخضاع اليمنيين لواقع قهري ومستدام من تقييد التنقّل إلى المنع. ومع أن خفض مستوى الصراع في اليمن يفرض على أطراف الحرب فتح المعابر أمام حركة المواطنين أو على الأقل تخفيض إجراءاتها التقييدية، فإن مبادرات فتح بعض الطرقات البرّية التي أُعلنت أخيراً تأتي في سياق امتصاص أطراف الحرب للضغط المجتمعي المطالب بحرية تنقل المواطنين، وذلك عبر الالتفاف على فتح الطرق الرئيسية التي تمرّ عبر المدن، ومن ثم الإبقاء على حالة الحظر وتأبيد معاناة اليمنيين.
من مظاهر سقوط الدولة المركزية في اليمن حضور المعابر بوظائفها ودلالاتها والنطاقات التي تعيّنها لرسم الحدود الجغرافية لقوى متنازعة ومتنافسة، فقد أدّى انتقال الوظيفة السيادية للدولة في حماية حدودها ومعابرها بما في ذلك الإشراف على الطرقات الداخلية إلى تحويل المعابر إلى مدخل لحمى جغرافي خاص مختلف الوظائف والأبعاد، وإذا كانت مآلات سنوات الحرب في اليمن قد أنتجت واقعاً مستداماً فإنها فرضت حدوداً جغرافية ثابتة، تشكّل تخوماً لسلطات متعدّدة، ففي حين سيّجت أطراف الحرب حدودها بمعابر تتمركز فيها نقاط أمنية تتبعها، تحدّد بموجبها الانتقال إلى أراضيها، كسلطة متمايزة، لها قوانينها الخاصة وعملتها المحلية، ومن ثم تخضع المواطنين لشروطها، بما في ذلك العسف والانتهاك، فإن قوى عسكرية تسيطر هي أيضاً على معابرها وتفرض قوانينها على حركة المواطنين، إلى جانب القوى القبلية التي تنشط في المناطق النائية، والتي تملك، هي الأخرى، معابرها الخاصة، وتتنوّع المعابر من معابر سياسية تُثبّت حدود سلطات الحرب إلى معابر ذات أهمية عسكرية، ومعابر ذات أهمية اقتصادية، فضلاً عن المعابر في مناطق التماسّ التي أنتجت، إلى جانب ازدواجية السلطات التي تدير حياة المواطنين، مستوى إضافياً من التقييد والمنع. وإذا كانت الدبلوماسية الأممية طوال سنوات الحرب قد فشلت في فتح أي طريق برّي داخلي رئيسي بين المدن الخاضعة لسلطات الحرب، فإن غياب أي مستوى من تطبيع العلاقات في الوقت الحالي يجعل من فتح المعابر الرئيسية خياراً مستبعداً لفرقاء الحرب لأسبابٍ مختلفة.
تدير سلطات الحرب المعابر بوصفها حدوداً سياسية تسيّج نطاقات سيطرتها الجغرافية، والتي تعني تثبيت شرعيتها السيادية بوصفها سلطة أمر واقع، ومن ثم تدفع إلى تثبيت المعابر، وتأمينها، ومن إخضاع المواطنين لقوانينها، من جماعة الحوثي إلى قوى سلطة المجلس الرئاسي، وفي حين أدّى اتساع الرقعة الجغرافية التي تسيطر عليها الجماعة إلى تعدّد المعابر التي تشرف عليها، سواء التي تسيّج حدود سيطرتها الفعلية، أو التي تطلّ على المناطق التي تخضع لسلطة خصومها، فإن تعدّد قوى المجلس الرئاسي أدّى إلى تعدّد القوى التي تهيمن على المعابر إلى جانب تنوّع وظائفها، فإذا كانت واحدية السلطة قد مكنت الجماعة من التسيّد في إدارة طرقاتها ومعابرها، فإن المعابر الأخرى التي تشرف عليها قوى المجلس الرئاسي تخضع لهيمنتها، ومن ثم لوسائلها في إدارة حدودها العسكرية، سواء مع جماعة الحوثي، أو القوى المنافسة لها، من قوات العميد طارق محمد عبد الله صالح الذي يسيطر على المعابر الداخلية في الساحل الغربي التي تطلّ على المناطق التي تخضع لسلطة الجماعة، إلى حزب التجمّع اليمني للإصلاح الذي يحضُر في مدينة تعز، والذي يشرف على المعابر الشرقية في المدينة، فيما تشرف السلطة المحلية في مدينة مأرب على المعابر التي تتماسّ مع المناطق الخاضعة للجماعة، إلى جانب المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يسيطر على المعابر في المدن الجنوبية، والتي تقيّد حركة المواطنين القادمين من المناطق الشمالية. فضلاً عن ذلك، تتنافس قوى المجلس الرئاسي في ترسيم حدود سلطتها مع القوى المنافسة لها، وذلك بتثبيت معابر لتأمين حدود سلطتها المحلية، ومن المعابر السياسية التي تسيّج حدود سلطات الحرب تحتل المعابر العسكرية أهمية بالنسبة لها، سواء في مناطق المواجهات أو في مناطق التماسّ، والتي تحرص على إبقائها مغلقة أمام حركة المواطنين، فضلاً عن اقتصاد المعابر الذي يوفر لقوى الحرب على اختلافها، يومياً، موارد طائلة تدخل خزينتها سواء من حركة التجارة الداخلية أو من فرض ضرائب على الناقلات التي تمر عبر منافذها والتي تشكل اقتصادها الرئيس.
سياسياً وعسكرياً واقتصادياً أيضاً، تتمايز قوى الحرب في طرقها في إدارة ملفّ المعابر، بحيث يفرض الطرف الأقوى، كالعادة، شروطه على خصومه. ومع تعدّد المعابر المغلقة التي تستمر في مضاعفة معاناة المواطنين، بحيث تغطّي الجغرافيا اليمنية، فإن هناك مدناً تحتلّ خصوصية في سردية المعابر والحصار. وفي هذا السياق، تحتلّ مدينة تعز خصوصية استثنائية، وذلك جرّاء حجم الضرر الإنساني من استمرار حصارها من جماعة الحوثي، وإغلاق معابرها الرئيسية، ومع تواطؤ القوى المحلية الفاعلة في مدينة تعز من بقاء الحصار، لأسبابٍ سياسيةٍ واقتصادية، فإن جماعة الحوثي هي الطرف المهيمن على القرار. وفي حين قدمت الجماعة أخيراً مبادرة أحادية لفتح طريق إلى مدينة تعز، فإن اعتبارات سياسية فرضته، إذ إن دخول الجماعة في معادلة الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني ومطالبتها برفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزّة، وأيضاً هجماتها العسكرية في البحر الأحمر جعلها، كما يبدو، تخضع للضغط المجتمعي المطالب بفتح معابر تعز، بهدف تحسين موقفها الداخلي، إلا أنها اشترطت فتح طريقي الخمسين والستين، لعدم تغييرها مركز السلطة كقوى تسيطر على نصف مدينة تعز، ومن ثم الإبقاء على مكاسبها السياسية وقبلها الاقتصادية، فالالتفاف على مطالب المواطنين والسلطة المحلية في مدينة تعز فتح الطريق الرئيسي الذي يربط بين تعز وصنعاء، من خلال فتح طريق الحوبان، ومن ثم إن فتح الجماعة لطريق الخمسين لا يكسر حالة الحصار في المدينة، ويبقي على حالة تقييد حركة عبور المواطنين ومنعها بين شرق المدينة وغربها.
فضلاً عن ذلك، قدّمت الجماعة، أخيراً، مبادرة لفتح طريق صنعاء - مأرب، عبر فتح طريق برّي ثانوي ينطلق من صرواح الذي تسيطر عليه الجماعة مع بقاء الطريق الرئيسي الذي يبدأ من منطقة نهم، شرق صنعاء، إلى مأرب طريقاً مغلقاً، وذلك لتحسين موقعها العسكري في تخوم مأرب الغنية بالنفط والغاز، ومن ثم إن مبادرتها ليست سوى تحايل على الضغط المجتمعي، ورمي الكرة في ملعب خصومها. في المقابل، طالب محافظ مأرب وعضو المجلس الرئاسي، سلطان العرادة، جماعة الحوثي فتح طريق مأرب- صنعاء من منطقة نهم، إلا أن خصوصية تأمين مأرب من شرقها، وتحديداً من صنعاء التي تسيطر عليها الجماعة، يجعل ذلك مستحيلاً، ليس لمخاطر الألغام فقط، بل لحرص الطرفين على تأمين مواقعهم العسكرية، وهو ما ينطبق على طرقاتٍ أخرى ستظلّ إلى أجل غير مسمّى مغلقة أمام المواطنين.
من شمال اليمن إلى جنوبه، ومن مدينة يمنية إلى أخرى، تتثبّت حدود دويلات الهويات الطائفية والمناطقية والسياسية بسلطاتها القمعية وقوانينها التمييزية وعملتها واقتصادها واقعاً قهرياً يدفع اليمنيون البسطاء كلفته كل يوم، من الموت في طرقات برّية غير آمنة، إلى الاستجواب على الهوية والحبس في معابر الاستباحة وانتهاك الكرامة التي تقيّد حقّ اليمنيين في بلاد ما عادت بلادهم.
العربي الجديد