تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية على الحرب في اليمن (تقدير موقف)

تُدفع الأزمة الرُّوسية- الأوكرانية إلى حافَّة حربٍ لا تبدو واضحة النهاية، وإن كانت الأطراف التي تحوم حولها معروفة، وتتقدُّمها، في صفِّ أوكرانيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ودول حلف شمال الأطلسي. ولعلَّ ممَّا عقَّد الأزمة تصلُّب الموقف الروسي في مطالبه، والاعتراف -مؤخَّرًا- بمنطقتي دونيتسك ولوجانسك، الانفصاليَّتين، جمهوريَّتين مستقلَّتين عن أوكرانيا؛ وذلك -كما يبدو- تمهيدًا لضمِّهما إلى الاتِّحاد الروسي.


لعل تمسُّك كلُّ طرف في الأزمة، بمحدِّدات إستراتيجية لا تقبل المساومة، ستكون كُلفته باهظة، بصرف النظر عن الرابح النهائي، أو الأكثر ربحًا، ليس على مستوى روسيا وأوكرانيا فحسب، بل وعلى مستوى دول المحيط الجغرافي، وأبعاده الجيوسياسية، وامتداد ذلك نحو منطقة الشرق الأوسط، خصوصًا المناطق المتوتِّرة فيه، ومن ذلك اليمن، وهذا ما سيتناوله تقدير الموقف هذا.


خلفيَّات الأزمة وسياقاتها


تأخذ الأزمة الروسية- الأوكرانية ثلاثة مستويات، هي: المستوى الداخلي للبلدين، والمستوى الإقليمي، والمستوى الدولي، أو النظام العالمي، ويسيِّج ذلك الحسابات الأمنية في المجالات المختلفة. فعلى المستوى الداخلي، تبرز الأزمة بوصفها امتدادًا لتداعيات انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م، التي كانت جمهورية أوكرانيا جزءًا فاعلًا فيه، وقد أخذت أوكرانيا كغيرها مِن الجمهوريات المتحرِّرة مِن الهيمنة السوفييتية في تعزيز استقلالها السياسي والاقتصادي عن موسكو، ولكن بارتهان آخر في أحضان الغرب، خصوصًا الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي "ناتو"، والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تحاول مِن جهتها استغلال الموقع الجغرافي الإستراتيجي لأوكرانيا للاقتراب مِن روسيا، بوصفها نقطة تماس حرِجة ومباشرة معها، خصوصًا إذا ما تمكَّن حلف شمال الأطلسي مِن إقامة قواعد عسكرية في أوكرانيا.


امتدادًا لذلك، يبرز المستويان الإقليمي والدولي للأزمة في تداخل شديد ومعقَّد مع المستوى الداخلي لها. ففي سياق مساعي إعادة الهيمنة، أو وقف اقتراب حلف شمال الأطلسي من أراضيها، وجدت موسكو أنَّ أوَّل ما ينبغي اتخاذه مِن تدابير، إعاقة الاندفاع الأوكراني نحو الغرب، وضمان بقاء الغرب على مسافة آمنة مِن روسيا، خلف الحائط الجغرافي الغربي لها، وفي ما وراء المياه الدافئة؛ ونعني بذلك ما بعد البحر الأسود، والبحر الأبيض المتوسط. وقد أرست روسيا أساس ذلك، باقتطاعها شبه جزيرة القرم مِن أوكرانيا عام 2014م، عقب أحداث الثورة الشعبية التي أطاحت بالنظام الموالي لروسيا، وقيام نظام جديد موالٍ للغرب.


وقد سبق أن أشعلت موسكو النزاع في منطقتي دونيتسك ولوجانسك، الحدوديَّتين، جنوب شرقي أوكرانيا، إلى أن وصلت بالأوضاع إلى تسوية جائرة تضمَّنها اتِّفاق "مينسك" لعام 2015م، والَّذي وُضعت لبناته الأولى عام 2014م؛ وكانت موسكو طرفًا فيه، بجانب الأطراف الانفصالية في مناطق النزاع، فيما كان على الطرف الآخر أوكرانيا، ومنظَّمة الأمن والتعاون الأوربِّي، الَّتي مثَّلت وسيطًا فاعلًا على طول مراحل هذا النزاع.


عمليًّا، عزَّزت روسيا وجودها العسكري على الجانب الشرقي لأوكرانيا، عبر أراضيها المتاخمة لها، وعبر وجودها العسكري غير المباشر في إقليم دونباس الانفصالي، وفي بحر أوزوف، وشبه جزيرة القرم، وشمال غربي البحر الأسود؛ وذلك ما يكشف عنه حجم القوَّات التي قامت موسكو بإعادة انتشارها، ومِن ذلك نشر أكثر من 100 ألف جندي على الحدود بين البلدين، ونصب منظومة الصواريخ الدفاعيَّة الروسية (أس-400)، وتمركز مئات الطائرات المقاتلة والمروحية على طول القوس الجغرافي الشرقي والجنوبي المتاخم لأوكرانيا، شاملا ذلك أراضي جمهوريَّة بيلاروسيا، فضلًا عن النشاط الحثيث لقواعدها في المحيط الهادي، وشرقي البحر المتوسط (على سبيل المثال: سوريا).


الحدود الجيوإستراتيجية والجيوسياسية للأزمةما من شك في أن دول المحيط الجغرافي لمنطقة الصراع الروسي الأوكراني، تمثِّل الدائرة الأولى لمسرح المواجهة المسلحة المحتملة؛ إذ أنَّ هذه الدول، قد تنخرط في الصراع، على أي نحو، ومِن ذلك دول القوس الجغرافي الشمالي الغربي لأوكرانيا، التي تمثِّل مصدر التهديد المباشر لروسيا، وتمثِّلها جمهوريات: مولدافيا، ورومانيا، والمجر، وسلوفاكيا، وبولندا. ومما يُذكر أن إقليم ترانسنيستريا الانفصالي، في جمهورية مولدافيا، يوجد فيه قوات روسية، ويحكمه ضبَّاط روس، على الرَّغم مِن أن مولدافيا استقلَّت عن الاتحاد السوفييتي عام 1991م، وانخراطت بعد ذلك في حلف شمال الأطلسي، ومجلس أوربَّا.


على الرغم مِن محاولة رومانيا الوقوف في صفِّ الحياد، وإبداء الدعم الدبلوماسي لنزع فتيل الأزمة، إلَّا أنَّها لا تخفي استعدادها لدعم أي عقوبات دولية تجاه موسكو، إذا ما حاولت غزو أوكرانيا. وهذا بالطبع قد يقودها إلى الانخراط في الحرب التي قد تنشب، إذا ما قرَّر حلف شمال الأطلسي "الناتو" التَّدخُّل -مباشرة- فيها، لكونها عضوًا فيه منذ عام 1997م؛ وما يشير إلى هذا السيناريو انتشار قوات من حلف الناتو في أراضيها، بوصفها الأكثر قربًا مِن مصادر التهديد الروسي، في البحر الأسود وشبه جزيرة القرم، مع شعورها الأكيد بأنَّ الدور الروسي سينتقل إليها مستقبلا.


تُعد بولندا الدَّولة الأوضح موقفًا في هذا القوس؛ حيث أعلنت وقوفها إلى جانب أوكرانيا، وفقا لمحدِّدات كثيرة، مثل: اللغة المشتركة، والأصول السُّلافية، وذلك ما تجلَّى في استقبالها قوَّات بريطانية وأمريكية، وتسهيل وصول الأسلحة إلى أوكرانيا. وعلى امتداد أراضيها شمالًا، باستثناء مدينة كالينينجراد التابعة لروسيا، تمتد حدود الأزمة لتشمل ما يعرف بدول البلطيق، وهي: إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا؛ وهي -قطعًا- لا تعني كافة الدول المشاطئة لبحر البلطيق، وإنما الدول المحاذية للحدود الغربية للاتحاد الروسي، وتشاطئ هذا البحر، وتنخرط في حلف شمال الأطلسي، وتتقيَّد بسياساته الدفاعية التي تصنف روسيا أحد التهديدات التقليدية.


الحالة الاستثنائية، الأبرز، في القوس الجغرافي الغربي لأوكرانيا، جمهورية بيلاروسيا (روسيا البيضاء)، التي تمتد -قليلًا- إلى شمالي أوكرانيا؛ حيث ستلعب دورًا عسكريًّا فاعلًا، وفقًا لمقتضيات عضويَّتها في الاتحاد الكونفدرالي الروسي، وارتباط ماضيها بمآسي الحرب العالمية الثانية، التي كانت في صدارة مواجهة النازية، وكلَّفها ذلك ثلث سكانها، ونصف مواردها الاقتصادية، وتدمير معظم مدنها، ووقوعها، في نهاية المطاف، تحت السيطرة النازية، خلال الفترة (1941م- 1944م).


خلف هذه الحدود، وفي إطار الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن، تبرز فرنسا وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، والصِّين. ففرنسا تتمسَّك بحقِّ أوكرانيا في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسى، وحقِّ الحلف في التوسع شرقًا، دون أي قيود روسية؛ وتحاول -في سبيل ذلك- دفع روسيا نحو الحوار مع أوكرانيا، على أساس ما يُعرف بـ "صيغة نورماندى"، التي مثَّلت أساسًا لاتِّفاق "مينسك" عام 2014م، واتِّفاق عام 2015م، وكان لفرنسا الدور الأبرز في ذلك.


أمَّا بريطانيا، فإنها تُبدي وبكل وضوح دعمها الكامل لأوكرانيا، وتحاول إسنادها عسكريا واقتصاديا، في إستراتيجية بريطانية مضادة لروسيا، مِن أبرز ملامحها تبادل طرد الدبلوماسيِّين بين البلدين، عام 2018م، ووصول العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى مرحلة عدم الثقة، عقب انكشاف النشاط الاستخباري الروسي في بريطانيا، والَّذي تعقَّب عددًا من المعارضين الرُّوس، وأودى بحياتهم قتلًا، في قلب مدينة لندن.


تناور الولايات المتحدة الأمريكية، تارة بالحثِّ على الدبلوماسية لحلِّ الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، وتارة بالتحذير الشديد اللَّهجة لروسيا بأنَّ الموقف الأمريكي سيكون حازمًا تجاهها، إذا ما انتهجت خيار الحرب. وكانت أبرز ملامح الوجه الأوَّل للموقف الأمريكي اللِّقاءات المباشرة وغير المباشرة، بين القيادتين الروسية والأمريكية، التي شارك فيها الرئيسان بوتين وبايدن، عبر دوائر اتِّصال إلكترونية، فيما بدت ملامح الوجه الثاني في التعزيزات العسكرية التي تدفع بها واشنطن وحلف الناتو إلى بولندا، ونشاط البحرية الأمريكية في البحر الأسود.


ينطلق الموقف الصيني تجاه الأزمة الحاصلة، من رؤية تحاول عدم الانخراط المباشر فيها، مع الميل إلى الحياد، فهي ترى أن روسيا لديها الحق في حماية أمنها القومي من أي اختراق لحلف الناتو في أوكرانيا، لكنها لا تبرر لموسكو غزو أوكرانيا، أو المساس بوحدة أراضيها. ومثلما أن للصين علاقات إستراتيجية مع روسيا، فإنها تقيم علاقات متينة، تجارية وتقنية، مع أوكرانيا، ولا ترغب في الوقت ذاته خسارة الدول الأوربِّية في هذا المعترك؛ وتؤكِّد بأنَّ السياسة الأمريكية تحاول جرَّ الصين إلى ذلك، بناء على ما تثيره علاقتها مع روسيا من انزعاج لها، في ظلِّ سعي روسيا إلى قيام أوراسيا الكبرى، ودمجه مع المبادرة الصينية الموسومة بالحزام والطريق.


في سياق الحدود الجيوإستراتيجية والجيوسياسية للأزمة الروسية الأوكرانية، لا نغفل موقف ألمانيا وتركيا. فألمانيا لم تهرول نحو التصعيد، مثل معظم دول حلف شمال الأطلسي، بل قيَّدت ذلك بمصالحها الإستراتيجية مع روسيا، خصوصًا ما يتعلَّق بحساباتها إزاء أمن الطاقة، وعلى وجه الخصوص الغاز الروسي الذي سيصل إلى أراضيها -مباشرة، عبر بحر البلطيق. وقد حاولت مؤخرًا، الخروج -قليلًا- عن هذا المسار، لدواعي توازن الموقف، وذلك بإعلان عزمها نشر وحدات إضافيَّة مِن قوَّاتها في ليتوانيا؛ وهذا لن يؤثِّر -قطعًا- على موقفها المعلن مِن ناحية، وعلى استمرار حصولها على الغاز الروسي، عبر مشروع أنبوب (نورد ستريم 2)، الذي ينطلق مِن "فيبورغ" في روسيا، إلى "غرافيس فالد" في ألمانيا، عبر بحر البلطيق. فقد أعلن المستشار الألماني، "أولاف شولتس"، أنَّ مشروع أنبوب (نورد ستريم 2)، لن يدخل الخدمة إذا ما قامت روسيا بغزو أوكرانيا، لكن هذا الإعلان يفتقد إلى الكثير مِن الواقعية، ذلك أنَّ ألمانيا ثاني أكبر شريك تجاري لروسيا بعد الصين.


أما موقف تركيا، فيُبدي الدَّاعم الكامل لوقف التصعيد، واحترام السيادة الأوكرانية؛ وقد سبق لها أن زوَّدت أوكرانيا بطائرات مِن نوع "بيرقدار"، غير المأهولة، الَّتي أحدثت أثرًا مدمِّرًا في صفوف انفصاليي "دونباس". وعلى الاتجاه الروسي، لا تزال عقود الغاز الروسي مع تركيا تشكِّل عامل تقييد لموقفها النهائي، فضلا عن قيود أخرى ذات صلة بحصولها -سابقًا- على منظومة الدفاع الصاروخية الروسية (أس-400)، والتفاهمات المشتركة -غير المعلنة- بينهما، بشأن تقاسم نفوذهما العسكري في سوريا.


تداعيات الأزمة على الأطراف الخارجية للحرب اليمنية ومآلاتها


نرصد، في هذا السِّياق، تداعيات الأزمة الروسية- الأوكرانية، وتطورها إلى صراع مسلح، على أبرز الأطراف الخارجية المنخرطة في الحرب اليمنية، وعلى مصير هذه الحرب.


أوَّلا: التداعيات على الأطراف الخارجية للحرب اليمنية


يبرز هذا السياق، التداعيات التي قد تطال إيران، ودول "التحالف العربي" المنخرطة في الحرب اليمنية، خصوصًا السعودية والإمارات، وأخيرًا الولايات المتحدة الأمريكية، مِن منطلق ارتباط هذه الدول بالأزمة الروسية- الأوكرانية، والحرب اليمنية.


بالنسبة إلى إيران، ومِن ناحية أمنها الاقتصادي، وأمن الطَّاقة عالميًّا، فإنَّ تفاقم الأزمة سياسيًّا، بين روسيا وأوكرانيا، أو وصولها إلى الصِّدام المسلَّح، سيتيح لإيران زيادة صادراتها مِن الغاز إلى أوربَّا، لمواجهة العجز الذي قد ينشأ عن توقُّف أو تراجع تدفُّق الغاز الروسي، نتيجة للعقوبات التي قد تُفرض على روسيا، أو غيرها، مِن أسباب توقف أو تراجع هذا التَّدفُّق؛ حيث تحتل إيران -عالميًّا- المرتبة الثانية في احتياطي الغاز الطبيعي، والثالثة في إنتاجه. وقد كشف وزير النفط الإيراني، في فبراير 2021م، عن زيادة في احتياطي إيران تصل إلى 33 تريليون م3، والذي كان قبل أربعة عقود نحو 9 تريليونات م3.


يعزِّز هذا الوضع، الرَّفع المتدرِّج للعقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران، لقاء مفاوضاتها النَّووية المباشرة، مع دول اتِّفاق "5+1"، لعام 2015م، وبطريقة غير مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها؛ حيث ستزداد فرص إيران في مجال تصدير الغاز، إذا ما وصلت هذه المفاوضات إلى برِّ الأمان؛ على أنَّ روسيا تؤمِّل أن يخدمها طول أمد المفاوضات، وتصلُّب موقف إيران فيها، لاستغلال ذلك -مؤقَّتًا- في مواجهة حلفاء أوكرانيا، خصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية، وأوربَّا، وإن كانت روسيا ذاتها طرفًا في هذا الاتفاق.


قطعًا، لا يعني تراجع المفاوضات النَّووية، أو إخفاقها، فقدان إيران للفرص الاقتصادية الناشئة عن تداعيات الأزمة الرُّوسية- الأوكرانية، وإنَّما لن تكون هذه الفرص بالمستوى الذي يتيحه نجاح هذه المفاوضات، لما يترتَّب عليه مِن رفع كامل للعقوبات الاقتصاديَّة الأمريكية التي أحبطت خطط شركات عالمية في الاستثمار بمجال إنتاج الغاز الإيراني. وفي اتِّجاه أمني آخر، قد يؤدِّي تطور هذه الأزمة، وإخفاق المفاوضات النووية، إلى استكمال تطوير برامجها العسكرية غير التقليدية، في المجال النَّووي، والصَّواريخ الباليستية، والطَّائرات غير المأهولة، والحصول على منظومة الصَّورايخ (إس-400)، والطائرات المقاتلة (SU-35)، مِن روسيا.


أما السعودية والإمارات، فإنَّ تداعيات اندلاع حرب روسية- أوكرانية، إضافة إلى تداعيات مكاسب إيران العسكرية، واختلال التوازن الأمني والعسكري في الخليج العربي، تبرز في مجال أمن الطاقة؛ إذ قد يؤدِّي ذلك إلى ارتفاع أسعاره، ليراوح سعر برميل النفط بين 100- 150 دولار أمريكي، وهذا ما أشار إليه -مبكِّرًا- الطَّلب الذي تقدَّم به إلى السعودية وفد الولايات المتحدة الأمريكية المشارك في منتدى الطَّاقة الدُّولي، الذي انعقد بالرياض، في 18 فبراير 2022م، لضخِّ المزيد مِن نفطها إلى الأسواق، لكنَّها لم تستجب لذلك، التزامًا بمبادئ التَّحالف المعروف بـ"أوبك+"، الَّذي تكوَّن عام 2016م مِن مجموعة دول "أوبك" زائدًا روسيا.


ما مِن شكٍّ، في أنَّ حدوث تغيُّر مفاجئ في الموقف السُّعودي، بنظر "أوبك+"، باتِّجاه زيادة أسعار النفط، سيُعلي مِن رصيد عوائده، بما يسهم في جسر الفجوات الماليَّة الناشئة عن جائحة كورونا (كوفيد-19)، والحرب اليمنية القائمة، التي لا تزال السعودية والإمارات تتحمَّلان معظم أعبائها.


على صعيد الأمن الغذائي، قد تؤدِّي التداعيات المحتملة للأزمة الروسية الأوكرانية، على السعودية والإمارات، في هذا الشأن، سواء بنشوب حرب، أم تعقُّد الأزمة سياسيًّا، إلى تراجع وارداتهما مِن الغذاء، وتضاعُف الحاجة إليها؛ حيث تمثِّل روسيا وأوكرانيا، ودول أخرى قد تنخرط في الحرب، مثل رومانيا، مصدرًا أساسيًّا لتدفُّق اللُّحوم، والحبوب، والزُّيوت، إلى السعودية والإمارات، بل ومنطقة الخليج العربي عمومًا.


ثانيًا: التَّداعيات على مآلات الحرب اليمنية


في ظلِّ استمرار الحرب في اليمن، وما يقابل ذلك مِن جهود لإنهائها، وفي ظلِّ التصورات المتوقَّعة لتداعيات الأزمة الروسية- الأوكرانية على الأطراف الدولية والإقليمية المرتبطة -على نحو مباشر وغير مباشر- بهذه الحرب، والتداعيات على الأطراف الدَّاخلية والوضع الإنساني، فإنَّه يمكن تصوُّر التداعيات على عملية السَّلام، في إطار سيناريوهين، هما: سيناريو الدَّفع بعجلة السلام لوقف الحرب، وسيناريو استمرار الحرب وتصاعد حدَّتها.


السيناريو الأوَّل: الدَّفع بعجلة السلام لوقف الحرب


ليس هناك ما يشير -بقوَّة- إلى أنَّ هذا السيناريو سيكون ماثلًا، بحيث تندفع عجلة السلام قُدمًا، وتتوقَّف معها الحرب، نتيجةً لما قد تخلِّفه الأزمة الروسية- الأوكرانية مِن تداعيات، وإنَّما قد يحدُث تحوُّل طفيف في هذا المسار، مِن خلال الدَّور الذي قد تفرضه روسيا في هذا الجانب، لتعزيز حضورها الدُّولي أمام الاصطفاف الغربي المناوئ لها، في أزمتها الراهنة مع أوكرانيا، وهو دور محدود، لأنَّها لا تملك وجودًا عسكريًّا في اليمن، كحالها في سوريا؛ بحيث تكون خياراتها محسومة ابتداءً.


يدعم هذا المذهب، الاستغلال المبكِّر، من قبل جماعة الحوثي، للأزمة الروسية- الأوكرانية، بإبداء الانحياز إلى روسيا، ومنحها نقطة ارتكاز في أزمة اليمن، مِن خلال المبادرة التي قدَّمتها هذه الجماعة إلى روسيا، في منتصف فبراير 2022م، لكنَّها حصرت موضوعها بما وصفته بـ"الملفِّ الإنساني"، ومِن ثمَّ الانتقال إلى العمليَّة السياسية لحلِّ الأزمة. ويضاف إلى ذلك، اعتراف عضو المجلس السياسي الأعلى، الحاكم في صنعاء، بانفصال جمهوريَّتي دونيتسك ولوجانسك "غير معترف بهما دوليًّا"، عن أوكرانيا، في محاولة لاسترضاء روسيا، ودفعها لفرض رؤية السَّلام التي تطرحها جماعة الحوثي.


المبادرة الحوثية المعلنة -فيما يبدو- محاولة للهروب فحسب، مِن مبادرات أطراف أخرى داعمة للحكومة المعترف بها دوليًّا، تحديدًا السعودية، الَّتي تقترح أوَّلًا إيقاف إطلاق النار وقفًا شاملًا، ومِن ثمَّ الانتقال إلى التسوية الشاملة للأزمة. وقد رحَّبت بها روسيا -نفسها- عندما أعلن عنها وزير الخارجية السعودي، في مارس 2021م. ورغم مرور أسبوع على كشف جماعة الحوثي لهذه المبادرة إلَّا أنَّه لم يصدر أيُّ تعليق روسي حولها، وعلى فرض الترحيب بذلك فإنَّ روسيا لن تجازف بمصالحها مع السعوديَّة والخليج، لتغليب رؤية جماعة الحوثي بشأن حل الأزمة اليمنية.


مِن جانب آخر، يعزِّز هذا السيناريو، ما قد ينجُم عن الأزمة الروسية- الأوكرانية مِن أزمة غذاء في اليمن؛ حيث يستورد اليمن مِن أوكرانيا، ما يعادل 22% مِن إجمالي استهلاكه مِن القمح، وقد تتضاعف هذه الأزمة، فتضغط على مختلف الأطراف للاندفاع نحو الحلول الدُّبلوماسية، إذا ما أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية على إعادة تصنيف جماعة الحوثي منطمة إرهابية أجنبية.


السيناريو الثاني: استمرار الحرب وتصاعد حدَّتها


يعدُّ هذا السيناريو أقرب إلى معطيات الواقع، وما قد تُسفر عنه الأزمة الروسية- الأوكرانية مِن تداعيات، على الأطراف الخارجية للحرب اليمنية. ففي إحاطته إلى مجلس الأمن، أواسط شهر فبراير 2022م، قال مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غرونبرغ: إنَّ الأبعاد الإقليمية للأزمة اليمنية تلعب دورًا كبيرًا في تعقيد حلولها. وأشار -صراحةً- إلى إيران والسعودية والإمارات وقطر. وهذه الدُّول ستقع -دون شكٍّ- تحت تأثير التداعيات الناشئة عن الأزمة الروسية- الأوكرانية، بوصفها دولًا منتجة للطاقة (النفط والغاز)، ومستوردة للغذاء مِن دولتي هذه الأزمة، فضلا عن ارتباطها السياسي والجيوسياسي بالأزمتين الروسية- الأوكرانية، واليمنية.


ثمَّة ملفَّات إقليمية ودولية لم تُحسم، ومِن ذلك المفاوضات النَّووية بين إيران ودول "5+1"، وهي ملفَّات وثيقة الصلة بالأزمة اليمنية، وأطرافها الخارجية، وستعمل تداعيات الأزمة الروسية- الأوكرانية على تقوية موقف إيران عسكريًّا واقتصاديًّا، وانعكاس ذلك على حليفتها (جماعة الحوثي)، بما يخلق المزيد مِن العنف، والابتعاد أكثر عن مسار السلام.


هذا الموقف -دون شك- سيُقابَل بمثله، مِن قبل الأطراف الخليجية العربية، لأنَّها لن تقبل بخطرين في آن واحد، أو أيٍّ منهما: الخطر النَّووي الإيراني، وخطر جماعة الحوثي، التي تمثِّل حلقة قوية في طوق التهديد الإيراني لشبه الجزيرة العربية. ومِن جانب آخر، سيؤدي ارتفاع أسعار النفط إلى تعزيز فرص الحصول على المزيد مِن الأسلحة لوكلاء الحرب في اليمن، ومِن ثم الإبقاء على فتيل الحرب مشتعلا، ما دامت المصالح الخارجية متعارضة.


*نقلاً عن مركز المخا للدراسات