استمرار التعثر.. إلى أين يقود "اتفاق الرياض" جنوب اليمن بعد نحو عام على توقيعه؟
بعد أقل من شهر يكمل "اتفاق الرياض" الموقع بين الحكومة اليمنية الشرعية وما يسمى المجلس الانتقالي الجنوبي عامه الأول، وخلال هذه المدة تبادل طرفا الاتفاق الاتهامات بشأن عرقلة تنفيذه، كما أجريت تعديلات فيه كانت لصالح المجلس الانتقالي المدعوم إماراتيا، وما نُفِّذَ منه حتى الآن فإنه يصب لصالح المجلس الانتقالي، كما أن التحركات على الأرض منذ توقيع الاتفاق كانت أيضا لصالح المجلس الانتقالي، مثل السيطرة على أرخبيل سقطرى، وما زالت المحاولات الالتفافية على الاتفاق من قبل حلفاء الإمارات جارية.
وبقدر ما يعكس تعثر تنفيذ الاتفاق فشل الدبلوماسية السعودية، فإنه في نفس الوقت يعكس حجم المؤامرات التي تحاك ضد اليمن، حيث تستخدم مختلف الأوراق لإضعاف السلطة الشرعية، ومحاولة فرض واقع جديد من شأنه تمرير مشروع الانفصال بسلاسة، والامتصاص التدريجي للغضب الشعبي إزاء كيد الأشقاء، خاصة بعد أن بدا لداعمي مشروع الانفصال، الإمارات والسعودية، أن كل الدعم والتدريب والتسليح للمليشيات الانفصالية خلال خمس سنوات كاد أن ينتهي في لحظة واحدة على أسوار مدينة عدن، في أغسطس 2019، وتم تدارك الموقف بقصف همجي بواسطة الطائرات الحربية الإماراتية طال وحدات من الجيش الوطني في أحد مداخل مدينة عدن كانت على وشك استعادة السيطرة عليها.
الاتفاق كخيار مرحلي
وَاهِمٌ من يعتقد أن "اتفاق الرياض" بإمكانه إنهاء التوتر في جنوب اليمن وعودة الأوضاع إلى طبيعتها واستبعاد مشروع الانفصال، ذلك أنه لو افترضنا صدق النوايا السعودية فيما يتعلق بموقفها من الوحدة اليمنية وموقفها أيضا من السلطة الشرعية، لكان الاتفاق قد تم تنفيذه فور التوقيع عليه، بل فإن السعودية ما كانت ستسمح منذ البداية بوصول الأوضاع في جنوب اليمن إلى المرحلة التي تستدعي مثل ذلك الاتفاق، فالاتفاق بحد ذاته يعكس سياسة تبادل وتكامل الأدوار بين السعودية والإمارات فيما يتعلق بتمزيق وإضعاف اليمن.
وإذا افترضنا أن مليشيات المجلس الانتقالي كانت قد تمكنت من حسم المعركة لصالحها في أغسطس 2019، وسيطرت على كل المحافظات الجنوبية، وأعلنت الانفصال، فهل كانت السعودية ستتدخل وستدعو كل الأطراف للحضور إلى الرياض ورعاية اتفاق يضمن التهدئة وعودة الحكومة الشرعية إلى العاصمة المؤقتة عدن وتشكيل حكومة جديدة وغير ذلك من بنود اتفاق الرياض المعروفة؟ الإجابة بالتأكيد: لا. وستكون السعودية في هذه الحال أول المعترفين بإعلان دولة جنوب اليمن، وأول المهنئين بنجاح مشروع الانفصال، وأول المبادرين بتقديم الدعم المادي للدولة الجديدة، وستستخدم نفوذها لإقناع العديد من الدول ومنظمة الأمم المتحدة بالاعتراف بالدولة الجديدة.
لم يكن "اتفاق الرياض" خوفا على الوحدة اليمنية ولا من أجل إنقاذ السلطة الشرعية من انقلاب مكتمل الأركان عليها في العاصمة المؤقتة عدن، وإنما كان الهدف منه إنقاذ ما يسمى المجلس الانتقالي من الهزيمة السياسية والعسكرية التي تجرعها إبان أحداث أغسطس 2019 وما أفرزته من تداعيات كادت تعيد تشكيل المشهد في جنوب اليمن بطريقة لا تروق للتحالف السعودي الإماراتي، وبالتالي فكان لا بد أولا من منح المجلس الانتقالي ومليشياته شرعية من خلال "اتفاق الرياض"، ثم اللعب على عامل الوقت لتمكين مليشيات "الانتقالي" من تثبيت سيطرتها على الأرض، والسيطرة على مناطق جديدة لا توجد فيها قوة ردع مكافئة، كما حصل في أرخبيل سقطرى، والمحاولة الفاشلة للسيطرة على محافظة المهرة.
إذن فالتطورات الميدانية ونتائجها التي لم ترُق للتحالف السعودي الإماراتي جعلت من "اتفاق الرياض" مجرد خيار مرحلي، ليس بهدف نزع فتيل التوتر في المحافظات الجنوبية وتوحيد الجهود ضد الانقلاب الحوثي، وإنما بهدف إنقاذ المجلس الانتقالي وإعادة تثبيت سيطرته على الأرض، وإتاحة الفرصة للبحث عن خطط بديلة لتمرير مشروع الانفصال من خلال القضم التدريجي للمحافظات الجنوبية، بعد أن بدا أنها عصية على السيطرة دفعة واحدة، خاصة بعد تنامي المخاوف الشعبية من النزعات المناطقية العنصرية ذات الطابع العنفي لمليشيات الانتقالي، وظهور مطالب فئوية مناطقية مقابلة لها، تتمثل في رفض ما تسميه "حكم القرية"، ورفض احتكار ما يسمى المجلس الانتقالي لحق تمثيل الجنوب، وأفرز كل ذلك ظهور عدة كيانات سياسية منافسة تمكنت من تقزيم المجلس الانتقالي سياسيا وسلبته محاولاته احتكار تمثيل الجنوب.
ما موقف السلطة الشرعية؟
اختارت السلطة الشرعية لنفسها أن تكون الطرف الأضعف في معادلة الصراع في جنوب اليمن، رغم الالتفاف الشعبي حولها، خاصة في أوقات الشدائد، والرفض المجتمعي المتزايد لمحاولات المجلس الانتقالي فرض سيطرته على الجنوب واحتكار حق تمثيله وتقديم نفسه كحاكم أوحد للجنوب وإقصاء بقية المكونات السياسية والاجتماعية هناك، سواء كانت وحدوية أو انفصالية، ولم تستثمر السلطة الشرعية عناصر قوتها هناك أو توظف الموقف الشعبي الرافض للمجلس الانتقالي ومليشياته لتعزيز موقفها سواء فيما يتعلق بمفاوضاتها مع المجلس الانتقالي أو تعزيز سيطرتها وحضورها على الأرض، ويعكس ذلك تماهيها، أي السلطة الشرعية، مع الأجندة السعودية والإماراتية الرامية إلى تمزيق وتدمير البلاد، ولو قدر للدولتين أن تمحوان اليمن من على الخريطة لفعلتا ذلك.
يمثل الأداء والحضور الهش للسلطة الشرعية في المحافظات الجنوبية والمحافظات المحررة بشكل عام انعكاسا لهشاشة السلطة ذاتها، ذلك أن كل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي برزت خلال السنوات الأخيرة في المحافظات المحررة تعكس حالة الشلل التي أصيبت بها السلطة الشرعية، لاسيما بعد أن تم تخدير أعضائها برواتب باهظة تدفع بالعملات الأجنبية وبرفاهية العيش والإقامة والأمن الشخصي، وإبعادها عن أزمات البلاد وهموم المواطنين، ويعني ذلك أن إصلاح السلطة الشرعية أولا هو المدخل الرئيسي لإصلاح كل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، خاصة أن الغالبية العظمى من أبناء الشعب باتوا ينظرون للسلطة الشرعية بأنها مجرد عبء على القضية اليمنية، فلا هي تبنت المطالب الشعبية وحشدت الجهود للقضاء على الانقلاب في صنعاء وعدن والتحرر من الوصاية الأجنبية، ولا هي استقالت وأفسحت المجال لمن هم أكفاء لإدارة البلاد في هذه المرحلة الخطيرة والحاسمة.
ما النتيجة؟
تؤكد المعطيات على أرض الواقع أن "اتفاق الرياض" يقود الوضع المتأزم في جنوب اليمن نحو المزيد من التصعيد. فمن ناحية، أثبتت السعودية أنها وسيط غير نزيه وغير محايد بعد استدعائها لقيادات المجالس الانتقالي والسماح لهم بممارسة أنشطة سياسية علنية داخل أراضيها يتخللها رفع علم الانفصال، مثل لقاء عيدروس الزبيدي بما يسمى الجالية الجنوبية في السعودية، وتم ذلك برعاية وتنسيق سعودي، وأيضا تواطؤ السعودية مع مليشيات الانتقالي أثناء سيطرتها على جزيرة سقطرى.
ومن ناحية أخرى، أثارت بنود "اتفاق الرياض" -المتعلقة بتشكيل الحكومة الجديدة وفقا لأسس مناطقية- ظهور مطالب فئوية في الجنوب ذات طابع مناطقي تطالب بضرورة تمثيل مناطقها في الحكومة، وهذا الأمر من شأنه ترسيخ الانقسامات المناطقية وتحويل مسألة الشراكة في السلطة إلى محاصصة مناطقية وتلغيم اليمن مناطقيا، أي استنساخ تجربة المحاصصة الطائفية في لبنان وآثارها المدمرة ونقلها إلى اليمن، مقابل تهميش الأحزاب السياسية العابرة للمناطقية والقبلية وغيرها من العصبيات الجاهلية.
وفي المحصلة، يمكننا القول إن التدخل العسكري السعودي الإماراتي في اليمن منح الدولتين الفرصة للاطلاع عن قرب على تفاصيل وتعقيدات الأزمة اليمنية، وبدلا من العمل على حل الأزمة، استغلت الدولتان الانقسامات المتوارثة والمكشوفة لإضفاء مزيد من التعقيد عليها وجرها بعيدا عن الحلول المفترضة، خاصة أن الانقسامات المتوارثة في جنوب اليمن مغرية للدولتين لتزيد من تعميقها والنفخ فيها، وزاد الطين بلة ظهور فئات مستعدة للبيع والشراء في مسألة السيادة الوطنية، وما "اتفاق الرياض" إلا مجرد حلقة من مسلسل تمزيق وتفتيت وإضعاف البلاد بذرائع ظاهرها حسن النية وباطنها الحقد واللؤم والنوايا الشريرة.