رمضان في غزة... عشرات الآلاف صائمون منذ بداية العدوان
يستقبل العالم الإسلامي شهر رمضان بينما لا يملك سكان قطاع غزة أيّ مقومات لقضاء شهر الصوم، إذ لا تتوفر لعشرات الآلاف وجبات، وفقد كثيرون منازلهم، والغالبية العظمى نازحون.
يدخل سكان قطاع غزة شهر رمضان من دون أية تحضيرات، وفي غياب أجواء الشهر الكريم في ظل حال يصفونها بـ"المذلة" للحصول على مساعدات غذائية لا توفر لهم الحد الأدنى من الطعام، كما لا تحفظ كرامتهم في ضوء العجز المتواصل عن إدخال المساعدات بصورة منتظمة إلى القطاع الذي يتعرض لحرب وحشية منذ أكثر من 5 أشهر متواصلة، عاشوا فيها أسوأ أيام حياتهم، وتفاقمت خلالها ظروف التهجير والنزوح القسري.
يعتبر غالبية الغزيين أنهم صائمون منذ بداية نوفمبر/تشرين الثاني، وهو الشهر الثاني من العدوان الإسرائيلي، فرغم أن هذا الشهر شهد دخول أعداد أكبر من شاحنات المساعدات عما هو عليه الوضع حالياً، لكنها كانت أيضاً لا تلبي حاجاتهم، خصوصا أن هذا الشهر شهد أكبر موجة نزوح جماعي من محافظتي غزة وشمال غزة، وهما أكثر المحافظات كثافة سكانية، باتجاه وسط القطاع وجنوبه.
نزح عماد زيادة (45 سنة) من شمال القطاع إلى مدينة رفح، وهو يوجد في السوق للبحث عن أرخص البضائع والمعلبات الموجودة كي يأكل أولاده الموجودون في أحد الخيام بالمنطقة الحدودية في أقصى جنوب القطاع، ويقول: "يعتبر جميع الناس حالياً في حالة صيام قاسية، وهذا الصيام يتجاوز المتعارف عليه من صيام شهر رمضان، إذ إن صيام رمضان ينتهي عند أذان المغرب، ويمكن عندها تناول الطعام والشراب، بينما الصيام القسري في قطاع غزة يتواصل بسبب عدم توفر الطعام والشراب أصلاً".
يضيف زيادة لـ"العربي الجديد": "في شهر رمضان، يتناول المسلمون وجبتي طعام في اليوم، هما الإفطار والسحور، لكنّ الغزيين، ومع دخول الشهر السادس من العدوان، وفي ظل عجز العالم عن إيقاف حرب الإبادة الجماعية، يصارعون للحصول على وجبة واحدة صغيرة يومياً، وهي لا تسد جوعهم، ولا تلبي حاجة أجسادهم التي أصبحت هزيلة ومتعبة. عندما كنت طفلاً تعلمت أن المسلمين أخوة، وأن رمضان شهر التكاتف، لكن لا أحد يفعل ذلك مع الغزيين، فقد أصبحنا متروكين، حتى إن المسلمين لم يقاطعوا إسرائيل، ما يجعلها تواصل الحرب حتى تقضي على نحو مليونين و400 ألف مواطن في غزة، إما بالقصف أو بالجوع".
يتابع النازح الفلسطيني: "لا توجد مائدة طعام نأكل عليها، وسنأكل في هذا الشهر على الأرض إن توفر الطعام، ولا يوجد مساجد لنصلي فيها، فقد دمرها الاحتلال على مرأى من العالم الإسلامي كله، وسنحرم من صلاة الجماعة ومن صلاة التراويح، كما سنحرم من زيارة الأقارب، فالجميع تقريباً نازحون، وربما نتزاور في الخيام، لكن من دون أن نقدم لبعضنا الحلويات والقطايف كما اعتدنا، حتى إن التمر والقهوة غير متوفرين".
ويعيش الغزيون في حالة ترقب كبيرة مع دخول شهر رمضان، إذ كان معظمهم يتوقع التوصل إلى اتفاق قبل حلول الشهر في ظل الأخبار المتداولة حول جهود قطرية ومصرية ودولية للتوصل إلى وقف إطلاق النار الذي قد يضمن لهم العودة إلى منازلهم، ومحاولة أن يقضوا رمضان في مناطقهم، حتى لو وسط الدمار، لكن كل المقترحات والمحاولات لم تصل بعد إلى اتفاق، وعادة ما تصطدم برفض إسرائيلي، إذ يريد الاحتلال الاستمرار في حرب الإبادة.
عاصرت الفلسطينية حفيظة مسلم (87 سنة) نكبة عام 1948، إذ هُجّرت عائلتها من قرية ملاصقة لمدينة يافا حين كان عمرها 10 سنوات. تقول لـ"العربي الجديد": "أول رمضان عشته نازحةً كان بعد ثلاثة أشهر على النكبة، وأتذكر أننا حصلنا حينها على مساعدات من دول عربية، من بينها مصر التي وصلت إلينا منها طرود مساعدات ملكية، وكذلك من منظمات دولية".
تضيف مسلم: "لا أعرف كم تبقى لي في هذه الحياة، لكن ما يحزنني أنني عشت كل هذه السنوات شاهدة على النكبة المستمرة، واستشهد ابني إسماعيل في الانتفاضة الأولى، كما استشهد أربعة من أحفادي، وثلاثة من أحفاد أحفادي في هذه الحرب. هذه المرة الأولى في حياتي التي يدخل علي فيها شهر رمضان وأنا أشعر بالبرد والجوع رغم أنني لاجئة منذ طفولتي، وقد عشت عقوداً في مخيم جباليا، ولا أذكر أنني عشت أياماً بهذه الصعوبة. حين جاء رمضان في عدوان عام 2014، كان لدينا طعام، وكانت المساعدات تصل إلينا، لكني أخاف أن أموت في هذا الشهر بينما أنا جائعة ولاجئة".
ومع حلول شهر رمضان، تقول وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" إن ما يصل إلى 1,9 مليون نازح يعيشون داخل 154 ملجأ تابعاً لها، أو بالقرب من هذه الملاجئ التي تصل إليها خدمات ومساعدات الوكالة، بينما وصل عدد النازحين داخل القطاع إلى أكثر من 75 في المائة من السكان، والكثير منهم نزحوا عدة مرات، أو أُجبروا على الانتقال بشكل متكرر بحثا عن الأمان، بداية من مدينة غزة وشمال القطاع، ثم من مناطق الوسط، ثم من مدينة خانيونس، ليكتظ عدد كبير من النازحين في أقصى جنوب القطاع.
وعاش سكان غزة صعوبات معيشية عدة خلال شهر رمضان الماضي، إذ كانوا يواجهون أزمة الغلاء، خصوصاً أن نسبة كبيرة منهم من موظفي السلطة الفلسطينية، وكانوا يواجهون خصومات من رواتبهم الشهرية، وكذلك الموظفون التابعون لحكومة غزة، الذين يدخلون العام السادس على التوالي من الحصول على نسبة من رواتبهم الشهرية.
وتضج مواقع التواصل الاجتماعي بصور وذكريات رمضان في قطاع غزة، ويقلب كثيرون في صورهم المخزنة في هواتفهم لمطالعة صورهم في شهر رمضان الماضي أو الذي سبقه، وما عايشوه من "لمة العيلة"، ويتمعن البعض في الأغذية التي كانت على مائدة الإفطار، ويشتاقون إلى هذه الأيام التي كانت صعبة حينها، لكنهم أصبحوا يتمنون لو أنها تعود.
تقول إسراء أبو حطب، بينما تتصفح حسابها على منصة "إنستغرام": "أحياناً تبكيني بعض الصور، فما كنا نعتبره معاناة في السابق أصبح حلماً صعب المنال حالياً. في إحدى الصور أيضاً، تظهر صديقتي سماح حجاج وشقيقتها، وقد استشهدتا في العدوان الحالي". وتوضح لـ"العربي الجديد": "جاء رمضان بينما لا نملك الأكل أو الشرب، وليس لدينا بيت. لا نملك شيئاً بالمرة. في بداية الحرب، كنت أعتقد أنها ستتوقف سريعاً، ولم أتخيل أن يأتي رمضان وأنا نازحة جائعة، ولا أملك حتى حذاء يحميني من البرد. أشتاق إلى الخبز، لا أريد الشوربة الرمضانية ولا الحلويات، أريد فقط أن نعود إلى المنزل، ونتناول معاً أيّ طعام، المهم ألا نعيش المزيد من هذه الأيام الصعبة".
وتكتفي آلاف العائلات النازحة في قطاع غزة بفرشات بالية من قماش يقومون بجمعه من الشوارع، وبعض الأغطية المهترئة، ويحاولون قضاء وقت الصيام في راحة داخل أماكن وجودهم في المدارس أو المستشفيات أو المنازل المدمرة جزئياً، ويترقبون إدخال المساعدات كما سمعوا عبر سفينة قادمة من جزيرة قبرص تحت إشراف دولي.
وفي المنطقة المحاصرة في شمال القطاع، لا يزال المئات ينظرون إلى السماء أملا في وصول مساعدات تسقطها الطائرات، رغم أن كثيرين يعتبرونها مذلة، ويلاحق آخرون أخبار دخول شاحنات مساعدات، ويتأهبون للذهاب إلى منطقة التوزيع، وهي نفسها التي راح فيها عشرات الشهداء.
من المنطقة المحاصرة، يقول زهدي النواجحة: "نزحت مع أسرتي من منطقة السودانية إلى إحدى مدارس أونروا، ونحن نصارع من أجل تأمين لقمة العيش، ونلاحق الأخبار التي تشير إلى توزيع مساعدات في ظل العجز عن تأمين الطعام لأطفالي الخمسة، الذين لم يطلب أي منهم أغراض شهر رمضان التي اعتادوا عليها خلال السنوات الماضية. نعيش في حالة من الضغط النفسي الكبير، ونعاني من خيبة أمل بسبب عدم توقف العدوان".
يضيف النواجحة لـ"العربي الجديد": "العالم يسخر منا عبر إنشاء ميناء مؤقت، ويتحدثون عن وجود توافق دولي عليه. عن أي توافق يتحدثون؟ العالم كله وافق على حصار غزة على مدار 17 عاماً. لماذا لا يتوافقون على إيقاف الحرب وإلزام إسرائيل بعدم التعرض للمدنيين؟ لا نريد مساعدات منهم إن أوقفوا الحرب. فسيعود الناس إلى منازلهم، وتعود الحياة طبيعية، وسنعمّر غزة بأيدينا". ويوضح: "تطورنا في غزة رغم كل المعاناة، ورغم الإمكانات المحدودة. فقط لا نريد حروباً. نريد أن نعيش حياة طبيعية، وأشعر بغصة في قلبي مع حلول شهر رمضان، فهذا العام لن أتمكن من الذهاب لمعايدة شقيقاتي، ولن نتجمع على مائدة الطعام التي كانت تعدها والدتي نوال النواجحة، فقد استشهدت في 15 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في منطقة الصفطاوي وعمرها 62 سنة".
العربي الجديد