"يوم عرفة".. القيمة الروحية والدينية في الإسلام ويوم الحج الأكبر، ما فضائله ومآثره؟
بدءا من شروق شمس يوم التاسع من ذي الحجة، يبدأ حجاج بيت الله الحرام في التدفق إلى صعيد عرفات لأداء ركن الحج الأعظم، وهو الوقوف بعرفة، بعد أن يقضوا يوم التروية (الثامن من ذي الحجة) في مشعر منى.
ويوم عرفة من أعظم أيام الله، تغفر فيه الزلاّت، وتجاب فيه الدعوات، وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على المسلمين، وجعله الله كالمقدمة ليوم النحر، وقد وردت في فضائله ومآثره والأعمال المشروعة فيه -للحاج ولغير الحاج- أحاديث نبوية عديدة.
أفضل الأيام
ورد في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟".
وفي مسند أحمد وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثا غبرا".
وروى ابن خزيمة وابن حبان والبزار وأبو يعلى والبيهقي عن جابر، رضي الله عنه، مرفوعا أيضا: "ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تعالى إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثا غبرا ضاجين، جاؤوا من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عقابي، فلم يُر يوما أكثر عتقا من النار، من يوم عرفة".
كما ورد في كتاب الحج بـ"موطأ الإمام مالك" أن يوم عرفة هو اليوم الذي "ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام".
اليوم المشهود
ومن عظمة يوم عرفة أن الله أقسم به في كتابه، فهو المقصود باليوم المشهود في قوله تعالى "والسماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود" (البروج 1-3)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة" (رواه الترمذي وحسّنه الألباني).
وقال بعض المفسرين أيضا إن يوم عرفة هو الوتر الذي أقسم الله به في قوله "والشفع والوتر"، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما- "الشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة".
يوم إكمال الدين وإتمام النعمة
جاء في الصحيحين عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية؟ قال "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" (سورة المائدة: من الآية 3)، قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
وإكمال الدين في ذلك اليوم حصل، لأن المسلمين لم يكونوا قد حجوا حجة الإسلام من قبل، فكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها، ولأن الله أعاد الحج على قواعد إبراهيم عليه السلام، ونفى الشرك وأهله فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد.
وأما إتمام النعمة، فإنما حصل بالمغفرة فلا تتم النعمة من دونها، كما قال الله تعالى لنبيه "ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك" (سورة الفتح: من الآية 2).
يوم الدعاء والذكر
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" (رواه الترمذي).
ومن أسباب الرحمة والمغفرة في يوم عرفة الإكثار من الذكر والدعاء، خصوصا شهادة التوحيد، فهي أصل دين الإسلام الذي أكمله الله تعالى وأتمه في ذلك اليوم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صيام يوم عرفه أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده" (رواه مسلم)، ويستحب فيه -كما في سائر العشر الأوائل من ذي الحجة- الإكثار من الأعمال الصالحة من صلاة نفل وصدقة وصيام وذكر وغيرها.
وقال صلى الله عليه وسلم "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام"، يعني أيام العشر الأوائل من ذي الحجة، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء" (رواه البخاري).
يوم الحج الأكبر
يعرف يوم عرفة أيضا بأنه يوم الحج الأكبر، إذ فيه يؤدي الحجاج الركن الأعظم للحج وهو الوقوف في صعيد عرفة والإكثار من الذكر والدعاء، وهو ركن لا يصح الحج بدونه.
والمقصود بالوقوف بعرفة هو الحضور وليس الوقوف على القدمين، فيمكن أن يجلس الحاج أو يستلقي إن كان ذلك أريح له، وعرفة كلها موقف كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس هناك مكان فيها مخصوص بذلك دون غيره، والشرط أن يكون الوقوف ضمن الحدود المعروفة لمشعر عرفات، ويستمر حتى غروب الشمس.
الصيام لغير الحاج
ورد أن صومه -لغير الحاج- يكفّر الله به السنة الماضية والباقية، والمراد بذلك تكفير صغائر الذنوب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله، والسنة التي بعده".
أما الحاج فلا ينبغي أن يصومه حتى يتقوّى على الوقوف وذكر الله تعالى في صعيد عرفات، وهو يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف.
ويستحب للحاج يوم عرفة أن يصلي الظهر والعصر جمعا وقصرا في وقت الظهر (ركعتين ركعتين).
التكبير
وذكر العلماء أن التكبير ينقسم إلى قسمين: تكبير مطلق، يكون في كل أيام العشر الأوائل من ذي الحجة، وفي عموم الأوقات، وروى البخاري أن ابن عمر وأبا هريرة -رضي الله عنهما- كانا يخرجان إلى السوق، يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. والقسم الثاني تكبير مقيد يكون عقب الصلوات المفروضة، ويبدأ من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق (11 و12 و13 من ذي الحجة).
وقد ورد التكبير بصيغ متعددة كلها تفي بالمطلوب، ومنها:
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.. الله أكبر، والله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله.. الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
والأمر في التكبير واسع كما قال أهل العلم والمطلوب إقامة ذكر الله في ذلك اليوم والإكثار منه.
الإكثار من الذكر والدعاء
يستحب في يوم عرفة الإكثار من الذكر والدعاء لقوله صلى الله عليه وسلم "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" (رواه أصحاب السنن).
كما ينبغي الإكثار من التلبية بصوت مرتفع "لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد.. والنعمة.. لك والملك.. لا شريك لك"، وكذا الإكثار من الاستغفار والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وينبغي أن يأتي المسلم بهذه الأذكار كلها، فتارة يهلل وتارة يكبر وتارة يسبح وتارة يقرأ القرآن وتارة يصلي على النبي وتارة يدعو وتارة يستغفر.
وروى ابن عبد البر بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وكادت الشمس أن تؤوب، فقال: يا بلال! أنصت لي الناس. فقام بلال، فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنصت الناس، فقال: معاشر الناس، أتاني جبريل آنفًا، فاقرأني من ربي السلام، وقال: إن الله غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات. فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا رسول الله، هذا لنا خاص. فقال: هذا لكم، ولمن أتى بعدكم إلى يوم القيامة. فقال عمر رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب".
(الجزيرة)