
القمريات... منافذ الضوء التراثية في بيوت اليمنيين
يمتاز اليمن بطراز تراثي فريد في العمارة والبنيان، وهذه البصمة الخاصة تمنح البلاد تفرداً في مجال العمارة، إذ يحتل مكانة مهمة نتيجة تاريخه الممتد، وبنايات مجموعة من المدن القديمة التي تشهد على العظمة والإبداع، ومن بينها مدينة شبام حضرموت التي تضم أولى ناطحات السحاب في العالم، وصنعاء القديمة التي تعد تحفة معمارية فريدة تبرزها صفحات التاريخ.
وتعد القمريات تراثاً معمارياً يمنياً بامتياز، كما تعد من الأشياء الجمالية التي يحرص عليها اليمنيون لتزيين منازلهم، سواء في المدن أو الأرياف، إذ توضع أعلى النوافذ بتشكيلاتها ونقوشها الهندسية الملونة، التي تضفي طابعاً جمالياً يأسر العين، وهي أحد مصادر الإضاءة داخل المنازل، وتتسرب الأضواء الملونة التي تعبر من خلالها إلى داخل البيوت.
يعود تاريخ القمريات إلى عصر مملكة سبأ، قبل نحو أربعة آلاف عام، وفقاً لعدد من المختصين، وظهرت لاحقاً في القصور اليمنية القديمة، مثل قصر غمدان، الذي يعود تاريخ بنائه إلى سنة 25 قبل الميلاد، وقد ازدهرت في ظل الحكم الإسلامي، وأصبحت أحد مكونات الطراز المعماري الإسلامي، خصوصاً في المساجد، وهو ما يؤكده عدد من المساجد التاريخية التي لا تزال تحافظ على طرازها القديم حتى اليوم.
ومثلت سنوات العصرين العباسي والفاطمي، ثم عصر حكم الإمبراطورية العثمانية في اليمن، طفرة في انتشار وازدهار أشكال القمريات، التي باتت تزين واجهات المنازل والمساجد والمدارس على حد سواء، كما أسهمت في تطور طرز العمارة الإسلامية.
سميت القمريات بهذا الاسم نظراً لمرور الضوء منها إلى داخل المنزل، ويشبه الضوء النافذ ضوء القمر في هدوئه وجماله، إذ يتلون ضوء الشمس بلون الزجاج الذي ينفذ منه إلى الداخل. والقمرية التقليدية نصف دائرة تعلو نافذة البيت، وتمنحها شكلاً جمالياً، وتتكون من الجص المشكل بأشكال هندسية، وتحوي ألواناً مختلفة من الزجاج.
وتستخدم القمريات في كل المحافظات اليمنية، خاصة المحافظات الشمالية، حيث لا يكاد يخلو منزل منها. وقبل شكلها الحالي، كانت القمريات تتخذ شكلاً دائرياً أو شبه دائري، وفي مرحلة زمنية تالية، صارت قاعدتها أكثر طولاً من رأسها، بينما اليوم تأخذ شكل نصف الدائرة، وكانت قديماً تصنع من أحجار الرخام الشفاف، كما كانت تثبت بمادة القضاض (مادة مضادة للماء مصنوعة من الجير) بينما تصنع اليوم من الجص.
الجص والزجاج هما المكونان الرئيسيان للقمرية حالياً، التي تبدأ صناعتها عبر قيام الحرفي برسم شكلها على الورق المقوى بالحجم المراد صنعه، وتُرسم الزخارف الهندسية قبل تنفيذها، وتختلف هذه الزخارف من قمرية إلى أخرى.
يُجهَّز الجص الأبيض الذي يستخرَج من صخور الحجر الجيري، ويُخلط بالماء للحصول على قوام سميك يمكن التحكم به، ويوضع الخليط على لوح خشبي يحدد حجم وشكل القمرية، وذلك باستخدام صفائح حديدية. وفي الخطوة التالية يُترك الجص المخلوط مدة ما بين نصف ساعة إلى ساعة، حتى يجف ويتماسك تمهيداً للمرحلة التالية المتمثلة بالنقش عليه، حيث تُنحت القمرية وفقاً للشكل الهندسي المعد مسبقاً، وبعد ذلك، تُعرّض للشمس مدة يومين حتى تتصلب.
بعد تماسك القمرية، تُوضع قطع الزجاج الملون على مجسم القمرية وفقاً للشكل الهندسي الخاص بها، وتُصب بعد ذلك طبقة أخرى من الجص، وهي طبقة خفيفة الهدف منها أن يبقى الزجاج في مكانه المحدد، وبذلك تأخذ القمرية شكلها النهائي.
وتتباين أسعار القمريات وفقاً لحجمها وجودة المواد الداخلة في صناعتها، وأحياناً يصل سعر القمرية الواحدة متوسطة الحجم إلى 300 دولار أميركي.
ومع ارتفاع تكاليف الصناعة، ارتفعت أسعار القمريات، على الرغم من الوضع المعيشي الصعب الذي يعيشه اليمنيون بسبب الحرب التي تشهدها البلاد، ما ساهم كثيراً في انحسار صناعة القمريات، وفقدان العديد من العاملين في صناعتها أعمالهم نتيجة شح الإقبال على شرائها. كما أن انتشار تصاميم البناء الحديثة والعصرية والمباني المبنية من الإسمنت والحديد، التي تعتمد على نوافذ مصنوعة من الألومنيوم، ساهم كثيراً في انحسار القمريات التي كانت مكوناً أساسياً من مكونات البناء التقليدي اليمني.
العربي الجديد