العصيد اليمني.. مكونات بسيطة تعبّر عن فلسفة حياة

العصيد الأكلة الشعبية الأشهر في اليمن، فهو صحي وسريع التحضير، وذو مقادير بسيطة تجعل التكاليف قليلة، وطعمه مميز. وهو وجبة الفقراء الذين يمثلون أكثر من 80% من سكان البلد، كما يشتهي الأغنياء وجوده في موائدهم.

يرتبط العصيد بوجبة الغداء دون غيرها، ويُصنع من القمح، أو من أحد أنواع الحبوب الأخرى كالذرة الحمراء أو الشامية أو الدخن أو الغرِب (السميد)، التي تضاف إلى ماء مغلي مع قليل من الملح، ويجري التحريك باستخدام عصا تسمى "المجحي" للحصول على مزيج غليظ ومتماسك. يؤكل العصيد حاراً مع الحلبة أو المرق أو الحقين (نوع من الألبان) أو السحاوق (صلصة) بالوزف (صغار السردين المجففة)، وغالباً ما يضاف إليه السمن البلدي الذي يمنحه مذاقاً خاصاً.

تشتهر المطاعم الخاصة بتقديم وجبة العصيد في كل مدن اليمن، كما امتدت وتوسّعت إلى دول الخليج، وفي مقدمها السعودية ودول أخرى يوجد فيها اليمنيون مثل مصر وتركيا وماليزيا.

تعرَف منطقة العزاعز بريف تعز بالعصادين، فهي تضم كثيراً من مالكي مطاعم العصيد في اليمن والخارج. وهم يجيدون صناعته حتى باتوا رمزاً لها فيذكر العزعزي مع العصيد. 

العصيد خيار صحي مناسب جداً، خصوصاً لمرضى السكري، فهو خال من الزيوت، ويحتوي على العديد من العناصر الغذائية المفيدة للجسم، كما أنه الخيار الأنسب للفقراء لسد جوعهم، لرخص ثمنه، إذ إن تكلفته نحو نصف دولار، ما يجعله في متناول الجميع، ولا سيما ذوي الدخل المحدود. 

لطالما كان العصيد أكثر من مجرد وجبة طعام في المطبخ اليمني، فقد أصبح معبراً عن صمود الشعب أمام المحن والشدائد. ولم يكن يوماً رفاهية بل ضرورة، خصوصاً المصنوع من دقيق القمح أو الشعير والممزوج بالسمن البلدي والزبادي والبسباس، حاملاً عبق البساطة والكرامة.

في القرى، حيث الأرض مصدر كل شيء، كان العصيد تعبيراً يومياً عن الاكتفاء بالموارد المحلية، ولم يكن وجبة مشبعة فقط، بل ترجمة للقيم القروية الأصيلة المتمثلة في التضامن والعيش الكريم. وكانت الجدات يحضّرنه بدفء الألفة ونشر روح الطمأنينة في البيوت. ولا تزال ذكريات اليمنيين تنبض بروح الجدات، وهن يخلطن الدقيق بالماء على نار هادئة، ويضفن السمن والزبدة.

مع التدهور الاقتصادي الذي أصاب اليمن وجد الشعب في العصيد سنداً وطنياً يُغنيهم عن المطاعم الغالية أو الأطباق المستوردة، وتحوّلت الوجبة إلى رمز للتماسك الاجتماعي، فالطبقات المتوسطة التي لم تعد قادرة على توفير تكاليف المطاعم عادت إلى مطبخها البسيط لتصنع العصيد، وكأنها تستعيد هويتها وجذورها.

في المجتمعات الزراعية القديمة كان العصيد وقود المزارعين الذين ينهضون مع الفجر ليحرثوا الأرض، واليوم عاد ليصبح ملاذاً للأسر اليمنية في وجه التحديات الاقتصادية. والأمر لا يتوقف عند قيمته الغذائية العالية، بل يتجاوزها إلى القيم النفسية والاجتماعية.

ليس العصيد مجرد وجبة طعام، إنه ذاكرة اليمن وروحه البسيطة التي تعيد إلى اليمنيين إلى قيم الأصالة، ويحكي في حضوره على موائدهم، قصة اليمني مع الصبر والتحمل. إنه الدرس الوطني الذي لا يُنسى، والإرث الذي يُحكى للأجيال القادمة.

يحضر في قصائد الشعراء اليمنيين وكتاباتهم، باعتبارها هوية جامعة، وحلقة وصل بين الأجيال المتعاقبة، ويكتب الشاعر فتحي أبو النصر:

"على صحن العصيد، 

تُنسج الحكايات، 

ترتفع الدعوات،

وتتشابك الأيدي في أمان.

أمي تصنع العصيد بيدين تعرفان الأرض،

يدين تحفظان الوطن".

يقول أبو النصر في حديث لـ"العربي الجديد": "يعبّر العصيد بمكوناته البسيطة والغنية عن فلسفة الحياة اليمنية، وهي الاكتفاء بالقليل والإبداع من خلاله. ويجسّد روح المقاومة والابتكار في مواجهة الحرمان، لا حزب سياسياً ولا أيديولوجيا يمكن أن تضاهي قدرته على جمع الناس تحت مظلة الإنسانية المشتركة".

يضيف: "في الحروب حين تتراجع الموارد وتُغلق الطرق، يبقى العصيد حاضراً. إنه وجبة تصنع من أبسط الأشياء، لكنها تحمل أثقل المعاني. لا يمكن الحديث عن التاريخ الوطني اليمني من دون الإشارة إلى دور هذه الوجبة في دعم صمود الشعب. لا يحتاج العصيد إلى أضواء وحملات سياسية. إنه الوجبة التي تجد طريقها إلى قلوب الجميع بصمت".

العربي الجديد