آثار اليمن والحرب: الدولة الغائبة في محكمة التاريخ والذاكرة
استنزفت الحرب في اليمن كثيرًا من مقدرات وإمكانات البلد الفقير؛ إلا أن خسائره الثقافية تبدو أفدح أشكال هذا النزيف وأخطرها؛ باعتبارها تستهدف ذاكرة البلد، وتنال من روايته الحضارية، من خلال ما ترتكبه عصابات التدمير والمتاجرة بالآثار من عمل ممنهج، مستغلة وضع اللادولة خلال سني الصراع، الذي ما زال مستعرًا هناك.
ويمثل عام 2025 امتدادًا لأعوام الحرب السالفة؛ إذ اتسعت فيه دائرة تخريب المواقع الأثرية ونهبها وتهريبها. والخطر الحقيقي في استمرار هذا النزيف، خلال الحرب، هو أنه يستهدف أي أمل باستعادة ذاكرة البلد من داخله؛ «إذ تجاوز خسائر الحرب فقدان مجموعات من القطع الأثرية والمخطوطات إلى خسارة أعمق تمثلت في تآكل الذاكرة اليمنية وروح الأمة».
يقول الباحث اليمني المتهم بتتبع آثار اليمن المنهوبة في الداخل والمهربة إلى الخارج، عبد الله محسن، متحدثا إلى «القدس العربي»، إن «الإهمال الذي سبق الحرب، على قسوته، كان قابلًا للترميم ولو بعد حين، أما المحو الذي أعقب الحرب فلا يترك مواد يمكن عبرها استعادة الذاكرة. وبهذا، يواجه اليمن خطر أن تُروى حكايته التاريخية من الخارج، وفق رؤى ومدارس تاريخية قد لا تنصف حضارته ولا تعكس سرديته الأصيلة».
اليمن أفقر بلد عربي وثاني أفقر دولة عالميًا؛ هذا الواقع- يضيف محسن- دفع أعدادا متزايدة من السكان، خاصة قرب المواقع الأثرية، إلى الإتجار بالآثار كوسيلة اضطرارية للبقاء بعد فقدان مصادر الدخل، بعد سنوات من انفراد العصابات المنظمة بذلك.
أدّى اتساع انخراط المواطنين في تهريب الآثار إلى زيادة المعروض وانخفاض حاد في أسعار القطع داخل الأسواق المحلية، مع رصد تداول علني لها في المحلات التجارية في محافظات عدة، أبرزها الجوف، في ظل عدم قيام أجهزة انفاذ القانون بواجباتها.
وفي موازاة ذلك، يقول: «تصاعد طلب خارجي مقلق، لا سيما من تجار في الصين وشرق آسيا، على الخرز والجزع والحلي الأثرية التي يسهل تهريبها عبر المطارات، لصعوبة تمييز القديم منها عن الحديث، بواسطة شبكات وساطة إقليمية عابرة للحدود».
في هذا السياق، أشار محسن إلى أدلة تؤكد التخريب المستمر و(الممنهج) للمواقع الأثرية خلال العام 2025: «حصن المقرانة الأثري في عزلة حجاج بمديرية جُبن، حيث أُقيمت مبانٍ ومصلى داخل حدود الموقع الأثري، ودُمرت أجزاؤه الشرقية لشق طريق إسفلتي. وفي نيسان/أبريل، بيعت قطعة أرض داخل حمى مدينة البيضاء (نشق) الأثرية في المصلوب بالجوف. كما فجر مجهولون في الضالع موقعًا يضم عدة قبور ويُعرف بقبة مريم العذراء، في قرية الشريفة مديرية حجر، ربما معتقدين أنه معلم مسيحي. ودُمرت كلياً مستوطنة أثرية في أعلى قمة جبل القانع قرية بيت الجاكي مديرية سنحان وبني بهلول، صنعاء. وتعرض للحفر والتخريب موقع العصيبية الأثري في جبل عصام، مديرية السدة بمحافظة إب…الخ».
وحذّرت الهيئة العامة للآثار والمتاحف بصنعاء مؤكدة أن «الآثار اليمنية تتعرض إلى أعمال نهب وتدمير ممنهج، إضافة إلى سرقة المتاحف، تضعنا فعلياً أمام مسؤولية كبيرة لحماية آثارنا وتراثنا، إذا لم نستشعر هذا الخطر ـ حكومةً ومنظمات غير حكومية ومنظمات دولية معنية بحماية التراث، وفِرَق المجتمع المدني ـ فلن نستطيع مواجهة ما يتعرض له القطاع الأثري من تهديدات متصاعدة في الآونة الأخيرة، التي طالت الآثار اليمنية على مختلف الأصعدة».
بموازاة أعمال التخريب والنبش والسرقات، توسعت أعمال عصابات التهريب لدرجة صارت هذه العصابات تصول وتجول بين المواقع الأثرية والمحافظات بدون أن تعترضها النقاط العسكرية التابعة لأطراف الصراع.
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك، وفق عبدالله محسن، «نهب وتهريب قطعتين أثريتين من معبد أوام في مأرب، تزنان معاً نحو طنين، جرى نقلهما عبر محافظات مأرب وشبوة وحضرموت وصولًا إلى منفذ شحن في المهرة، حيث تم إيقافهما لاحقًا وإيداعهما في متحف الغيضة. وباختصار، لم يتبق لعصابات التهريب سوى فتح مكاتب رسمية لمزاولة نشاطها، في ظل هذا المستوى من الانفلات».
ونوه محسن بواحدة من أهم عمليات بيع آثار يمنية في الخارج خلال العام 2025: «بعد ما يقارب عشرة أعوام من تهريب سِفر توراة قديم مع حاخام ريدة من صنعاء إلى تل أبيب، عرضت دار سوذبيز في نيويورك في كانون الأول/ديسمبر 2025، واحدة من أندر لفائف التوراة اليمنية المعروفة حتى اليوم، وهي مخطوطة تاريخية تعود أقدم رقوقها إلى الفترة ما بين 1425 و1450م أواخر حكم الدولة الرسولية. وباستثناء هذه النسخة لا يوجد حتى الآن توراة يمنية كاملة مؤكدة تعود لما قبل القرن الرابع عشر. تم فحص التوراة بالكربون المشع لتحديد عمرها، ما منحها توثيقاً دقيقاً. وهي أقدم من كل نُسخ التوراة الكاملة الموجودة حالياً بما فيها التوراة اليمنية في المكتبة البريطانية».
ونتيجة العدد الكبير للآثار اليمنية التي يتم المتاجرة بها في الخارج قال محسن:»في عام 2025، تُقدَّر القيمة الاقتصادية المحتملة للإتجار غير المشروع بآثار اليمن بنحو 10 إلى 20 مليون دولار سنويًا، مع انتقال جزء ملحوظ من هذه القطع إلى السوق الأوروبية عبر دول وسيطة، في ظل غياب بيانات رسمية دقيقة، واستمرار الحرب، وضعف منظومة الحماية».
وأشار، في هذا السياق، إلى «أن السعر الذي تخرج به القطعة من اليمن غالبا لا يتجاوز 10 في المئة من سعرها النهائي في السوق الدولية».
كما أشار إلى أن هناك تقريرا حكوميا غير منشور يقدر الآثار المهرّبة من اليمن 23308 قطعة أثرية بين شواهد قبور وتماثيل ونقوش حجرية وخشبية وبرونزيات وحلي وقطع ذهبية وعملات أثرية. ويرى أن أفدح الخسائر التي مني بها اليمن هي أعمال التخريب والتدمير والتهريب التي طالت آثار معين وسبأ في محافظة الجوف، وتهريب آثار معابد مأرب، إضافة إلى قصف متحف ذمار الإقليمي.
بالتوازي، تتعرض المتاحف في اليمن لواقع أقل ما يُقال عنه إنه يفاقم معاناة المخزون الآثاري الوطني؛ فكثير منها مغلق وتفتقد لموازنات تشغيلية، وتعرضت لأضرار جراء الحرب، بما في ذلك القصف المباشر، عوضًا عن أن مخازنها تفتقد لوسائل الحماية والحفاظ والحراسة اللازمة، مما يعرضها لمخاطر جمة.
وعن الأضرار المباشرة للحرب التي طالت المتاحف يقول محسن: «دُمر متحف ذمار الإقليمي تدميرًا كليًا نتيجة القصف الجوي في أيار/مايو 2015، وفُقد ما لا يقل عن 7.640 قطعة أثرية من أصل 12.500 قطعة كانت محفوظة فيه. أما متحف تعز الوطني فقد تعرض للقصف ثم للحريق، وفُقدت كثير من مقتنياته، قبل أن يتم استعادة بعضها وترميم المتحف لاحقًا».
ومن أبرز المخاطر التي تعرضت له متاحف اليمن خلال العام2025 يشير محسن، إلى «ما تعرض له المتحف الوطني بصنعاء من أضرار جراء القصف الإسرائيلي في 10 أيلول/سبتمبر، والذي تسبب، وفق التقرير الأولي، في تضرر 33 قطعة أثرية، و218 قطعة بين الركام، و483 قطعة في صناديق».
أما عن مخزون المتاحف اليمنية وأهمية التوثيق المتحفي، فيوضح: «لا يبدو أننا قادرون على تحديد أعداد دقيقة للقطع الأثرية، التي فُقدت من متاحف اليمن، فضلًا عن تلك المنهوبة من المواقع الأثرية، في ظل استمرار الحرب وتعدّد سلطات الأمر الواقع، وانقسام قطاع الآثار، وعدم قدرة هيئات الآثار والمتاحف في صنعاء وعدن على حصر وترقيم محتويات المتاحف الحكومية، التي تضم في المحافظات الشمالية وحدها، على سبيل المثال، نحو 140 ألف قطعة أثرية، لم يُرقَّم منها سوى قرابة 40 ألف قطعة حتى كانون الأول/ديسمبر 2025، ما يعني أن ما يُقارب 100 ألف قطعة بلا سجلات متحفية، ولا يمكن الإبلاغ عنها أو استعادتها في حال فُقدت».
ونتيجة لعدم توفر إمكانات حماية متحفية وطنية ـ يقول محسن: «لجأت الحكومة اليمينة إلى إعارة 77 قطعة أثرية أُعيدت من الولايات المتحدة إلى متحف سميثسونيان، كما أعارت أربعة تماثيل مستردة من الشرطة البريطانية، ومؤخرا 16 قطعة أعادتها الشرطة الفرنسية إلى متحف فرنسي عبر سفارة اليمن في باريس».
تمثل الآثار وثائق تاريخية يمكن، من خلالها، إعادة قراءة سردية تاريخ الإنسان والمكان، ومن هنا تأتي أهميتها الجوهرية باعتبارها- كما يقول محسن- «الجزء المحسوس من تاريخنا؛ بدونه يصبح التاريخ مجرد رواية شعبية لا دليل عليها، ونفقد سرديتنا المتماسكة للماضي، وننفصل عن جذورنا كأمة تجاوزت تقلبات الزمن».
وقال عبدالله محسن، وهو فائز بجائزة اتحاد الآثاريين العرب للعام 2025 عن مجال درء المخاطر والصراعات المسلحة عن التراث اليمني: «على ما يبدو عندما تضع الحرب أوزارها قد نفاجأ بحجم الكارثة التي تسببت بها الحرب في فقدان الكثير من آثار اليمن».
وحمّل المسؤولية الكاملة عن تهريب الآثار لما سماها «الدولة الغائبة.. والبقية تفاصيل» حد تعبيره.
وأكدَّ «أهمية وضع استراتيجية شاملة لحماية الآثار، تشمل تعديل قانون الآثار، وإعادة هيكلة هيئة الآثار والمتاحف، وتشكيل مجلس أعلى للآثار، تكون مهمته ملفات التخريب والنهب والتهريب والمزادات في الداخل والخارج، وعمل قاعدة بيانات وطنية، وحماية المواقع الأثرية، وتدريب ضباط الجمارك» وقبل ذلك إيقاف الحرب.
القدس العربي