تهريب آثار اليمن و«كشف مستور» نزيف الحرب

في سنة تاسعة حرب؛ يبرز نزيف الآثار كواحد من خسائر اليمن لمن يُجيد القراءة والحساب؛ إذ وفرت الحرب بيئة خصبة تنشط فيها عصابات ولصوص التاريخ، الذين ما زالوا يستنزفون ذاكرة البلد بلا رحمة؛ وتنطلق تحت هدير المدافع مهارات هذه العصابات في ظل تراجع سطوة الدولة، وتزايد حاجة عصابات الخارج لمسروقات الداخل من نفائس الآثار اليمنية؛ فمن نافل القول إن احتياجات المزادات في أنحاء مختلفة من العالم تتزايد، بشكل مخيف، على آثار بلدان الحروب.


خلقت الحرب الراهنة أخطر نزيف في مخزون آثار الحضارة اليمنية على مدى تاريخ من النهب والتهريب شهده البلد، علاوة على ما تعرضت له مواقع أثرية ومتاحف من قصف صاروخي فقد معه اليمن مخزونًا ضخمًا ونفسيًا من القطع الأثرية؛ وما زال استهداف متحف ذمار الإقليمي ومواقع في مأرب شاهد عيان للمأساة.

في مزادات بيع الآثار حول العالم يكتشف الإعلام مدى حضور اليمن في سوق نخاسة بنكنوت الذاكرة الثقافية، إذ هي تجارة قديمة؛ ونزيف آثار اليمن لم يتوقف منذ عقود طويلة؛ وبلغ ذروته خلال الحرب الراهنة.

ظلت حكومات البلد المتعاقبة غير مهتمة بالعمل الثقافي؛ وفي مقدمته حماية ومأسسة العمل الآثاري، وبالتالي عاش اليمن تخلفًا في برامج العمل المتحفي، واستراتيجيات التنقيب والحفظ والترميم والتوثيق وعرض وحماية التراث. ونتيجة لذلك ظل اليمن محرومًا من العمل الآثاري المتطور جراء تجاهل سلطاته لهذه الأولوية، مع تكريس الجهود لما أسمته الحكومات المتعاقبة الأولويات الخمس: الأمن، الخبز، الماء، التعليم، الكهرباء؛ وللأسف لم تتوفر تلك الأولويات؛ لأن الوعي الجمعي بقي خارج حسابات السلطات. تتكرر معاناة آثار سوريا والعراق مع آثار اليمن، ومعاناة اليمن أكبر؛ لأنه لم يتوفر على أي بنية تحتية في الداخل تحميه بالحد الأدنى.


موجات التهريب


عبدالله مُحسن؛ باحث يمني مستقل مهتم بتتبع آثار اليمن المنهوبة في الداخل والمهربة إلى الخارج، يقول لـ «القدس العربي» إن «هناك ما يشبه المتلازمة بين الحروب وغياب الدولة وبين ارتفاع منحنى تهريب الآثار. وتاريخ اليمن مجموعة من تلك الحروب. لذا فإن فترة الاحتلال البريطاني لعدن والاحتلال العثماني الثاني لشمال اليمن كانت أول منحنىً خطير في هذه الظاهرة. ولعل أولى القطع الأثرية التي نقلت إلى الخارج، 27 لوحاً برونزياً من مأرب و13 نقشاً حجرياً من شبوة ومأرب، جمعها الضابط البريطاني السير ويليام ماركوس كوجلان، وقدّمها هدية إلى المتحف البريطاني عام 1862 وأخرى جمعها الضباط الأتراك وتُعرض في متحف الشرق القديم في إسطنبول. وساهمت البعثات الأثرية الأجنبية في تسرب الآثار إلى الخارج. وفي الستينيات وما بعدها لم تكن القوانين حازمة فيما يتعلق بالآثار؛ وكانت استنساخًا لقانون الآثار البريطاني في عدن، وما زالت إلى اليوم، ومع زوال الحقبة الاستعمارية والثراء الناتج عنها قلَّ الطلب على الآثار باستثناء النوعية منها، لذا استمر التهريب بوتيرة أقل مما سبق. وشهدت التسعينيات أثناء وبعد الحرب الأهلية واحدة من أكبر موجات نهب المواقع الأثرية والمتاحف. ومع العام 2003 بدأت الموجة الثالثة للتهريب، وبلغت أوجها في العام 2008؛ تم فيها ضبط تهريب كميات كبيرة من الآثار، لا تمثل إلا جزءاً صغيرًا مما تم تهريبه. ثم جاءت الموجة الأكبر خلال هذه الحرب، ولم يشهد اليمن مثيلاً لها في نهب المواقع والمعالم الأثرية وتدميرها وقصفها وتسريب محتويات المتاحف، وتشكل المجموعات الخاصة من الآثار لبعض المسؤولين والنافذين والآثاريين».

هنا يسأل المتابع: إلى أي حد لعبت الحرب الراهنة دورًا كبيرًا في توسيع دائرة تهريب الآثار؟ يقول عبدالله محسن: «وفرت الحرب الطويلة والعبثية الفرصة لتجار الحروب والباحثين عن الثراء والمهربين، لاستباحة الآثار. وتسببت في قصف بعض المتاحف دون أن يكون هناك مبرر حقيقي لهذا القصف، الذي أدى إلى تدمير مقتنيات المتاحف ونهب محتويات بعضها. ولك أن تتخيل أيضاً تأثير قصف موقع أثري بالصواريخ، تُستخدم الفرشاة الناعمة عند استكشافه، بونٌ شاسع بين الفرشاة والصاروخ. لقد فتحت الحرب بابا لنهب وتدمير المواقع الأثرية يصعب غلقه، خصوصًا في المناطق النائية».

وعن معاناة آثار اليمن مقارنة بآثار العراق وسوريا يوضح محسن: «العراق وسوريا آثارها مسجلة ومؤرشفة ومحفوظة بطريقة علمية حديثة، أصغر قطعة تُفقد تُعرف، ساهم ذلك لاحقا في استعادة الكثير من تلك الآثار. أما بالنسبة لليمن فإن الجهات المختصة بالآثار تعجز عن تقديم أي إثبات يؤكد ملكية اليمن لقطعة أثرية عندما تطلب منها دولة ما تأكيد ذلك. ولا تملك الحكومة أي سجلات إلكترونية أو يدوية تحدد عدد القطع الأثرية في المتاحف، ولا المكونات الثابتة في المواقع الأثرية. وليس لديها أي استعداد للتعاطي الإيجابي مع هذه المشكلة، وهي على سبيل المثال تقف عاجزة عن تحمل تكاليف نقل مجموعة من القطع الأثرية تبرع بها ورثة أحد جامعي الآثار في نيوزلندا منذ مطلع العام الحالي، واضطر عدد من ورثة جامعي الآثار للتبرع بها إلى المتاحف الأوروبية في غياب آلية حكومية للتعامل هذا الأمر. عندما تعاد إلى سفارتك مجموعة من القطع في دولة كالولايات المتحدة ثم تقوم الحكومة بالتوجيه بإيداعها في أحد المتاحف الأمريكية ما الذي يعنيه هذا؟ ببساطة يعني عدم وجود الأمان الكافي في المتاحف اليمنية، وهو أمر صحيح. لكل ما سبق لا يمكن مقارنة وضع الآثار في اليمن بالآثار في سوريا والعراق».

فيما يتعلق بالمناطق اليمنية التي مثلت نزيفًا للآثار باتجاه الخارج يقول محسن: «تعد آثار محافظة الجوف الأكثر تضررًا ونزيفًا تليها محافظة شبوة ثم إب ومأرب ثم بقية المحافظات. وتنتشر في الجوف على سبيل المثال أحواش ممتلئة بالقطع الأثرية المعروضة للبيع. وهناك ما يشبه مزاداً بدائيًا لبيع الآثار. وضبطت إدارة المباحث في شرطة مدينة الحزم في الجوف أحد تلك الأحواش في مطلع كانون الأول/ديسمبر كان فيه 121 قطعة أثرية منها ثلاث مقلدة».

عادة ما يسأل المتابع عن أبرز وأكثر الآثار اليمنية، التي تمثل غالبية وأهم القطع المهربة خلال الحرب. يجيب محسن: «تعد النقوش المسندية وشواهد القبور والمجسمات النصفية والبرونزيات أكثر الآثار المهربة خلال فترة الحرب».

وفيما يتعلق بأهم القطع الأثرية اليمنية التي خرجت من البلد وتمثل خسارة كبيرة جدا للذاكرة يوضح: «تعد النقوش المسندية والزبورية أهم القطع المهربة، لأنها تقدم تاريخاً مكتوباً لليمن القديم، من حيث سردها للأحداث والوقائع والشخصيات والواقع الاجتماعي والسياسي والقانوني، ومن خلالها يمكن تأسيس سردية مترابطة ومنطقية لقصتنا كشعب يعيش اليوم في دوامة تيه كبيرة متكررة عبر التاريخ، الصراعات ذاتها والحروب والمنافسات والدور الخارجي والتكتلات، والنتائج والمآسي. ومن الأمثلة على تلك النقوش المهربة، نقش القائد وافي أذرح من معبد أوام؛ وهو أحد النقوش التي تشكل أهم مكتبة أثرية يمنية».

ثمة مزادات عديدة تعرض وتُباع فيها الآثار اليمنية خلال فترة الحرب ويرى محسن أن «مزادات المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا مثلت عامل جذب لبيع الآثار خلال الحرب. ولكثرتها يصعب الحديث عنها بشكل تفصيلي هنا».


خسائر عام 2023


قد يسأل أحدهم عن أهم القطع الأثرية التي خسرها اليمن خلال عام 2023 هنا يجيب محسن بكل أسى: «الدرع الذهبي الفريد والنادر للملك اليمني المعيني (وقه آل ريم) ولوحة برونزية أثرية نادرة فيها صورة لشابين ونقشد مسند، كان من المقرر عرضها في مزاد في يافا (تل أبيب) مع مجموعة من القطع الأثرية الأخرى إلا أنها لم تعرض بعد نشري للمجموعة كاملة قبل عرض المزاد لها. ومجموعة برونزيات من مدينة ظفار الأثرية بيعت في صنعاء، وعدد مهول من النقوش وشواهد القبور والحلي الذهبية». وفيما يتعلق بالعوامل التي ساهمت في توسيع دائرة تهريب الآثار اليمنية بجانب الحرب يقول: «في الدرجة الأولى سلبية الحكومة وعدم وعي الكادر الحكومي بأهمية الآثار وخطورة تهريبها أو قلة حيلته، وما ترتب عليه من غض الطرف عما يحدث، ثم ضعف الوعي المجتمعي وتردي الأوضاع الاقتصادية وجشع وانتهازية سماسرة الآثار والنافذين».

وأكد فيما يخص دور السلطات في حماية المواقع الأثرية: «على حد علمي، لم تقم السلطات في أي وقت من الأوقات بحماية المواقع الأثرية وتوفير عناصر الأمان والسلامة لها، لا في سلم ولا في حرب، وهذا العامل أسهم في سهولة نبش وتهريب الآثار».

وأشار إلى «أن التهريب يتم برا وبحرا وجوا عبر المنافذ الجمركية، وتتجه أغلب الشحنات إلى الإمارات والقرن الأفريقي، ومنها إلى إسرائيل وفرنسا ثم إلى أنحاء العالم، وهذا ليس أمراً مستغربًا في ظل الفوضى التي تُدار بها اليمن».

في تقييمه لواقع عصابات تهريب الآثار في الداخل أكد أن «عصابة تهريب الآثار في اليمن تعيش أيامها الذهبية؛ ووصل بها الحال لإعداد كتالوغات مقتنياتها من الآثار المعروضة للبيع. وفي بعض المحافظات يعرض المهربون صور ما لديهم من القطع الأثرية على مكتب الآثار للتفاوض على السعر دون أن يؤدي ذلك إلى أي إجراء قانوني». وعن مصادر حالات التهريب، وهل ثمة تسريب من المتاحف يوضح الباحث عبدالله محسن: «توجد بعض حالات التهريب من المتاحف، لكنها لا ترقى إلى المرحلة التي نعتبرها ظاهرة. لكن رداءة سجلات وبطائق المقتنيات وعدم وجود جرد وإحصاء حقيقي يجعل ذلك متوقعاً».

تمثل الآثار في المتاحف مشكلة أخرى في ظل إغلاق بعضها وعدم توفر إمكانات الحفظ والترميم والتوثيق والعرض والحماية. وهنا يقول: «لا يطبق أي دليل إجراءات تخزين في المتاحف للحفاظ على المقتنيات إلا بشكل جزئي وغير فاعل في بعض المتاحف. القطع الأثرية ملقاة على الأرض وفي أرفف دون ترقيم وبعضها مخزن في بيوت موظفي المتحف، وبعضها في مخزن تابع لمدير فرع الآثار».

واعتبر أن نشاطه الدائب منذ سنوات في التعريف بالقطع التي تُباع ومكان بيعها يهدف كما يقول «إلى رفع الوعي المجتمعي والحكومي بخطورة ظاهرة الآثار المهربة، والضغط على صناع القرار لاتخاذ قرار لتبني وتنفيذ خطة وطنية لمعالجة هذه الظاهرة».

وفيما يتعلق باستعادة اليمن للقطع الأثرية قال محسن: «يمكن أن تعمل السلطات في اليمن الكثير لاستعادة القطع الأثرية، قد يكون الأمر معقداً لكنه ممكن. تحتاج الحكومة إلى الرغبة الحقيقية والإرادة لحماية المواقع الأثرية والمتاحف أولاً، ثم إيقاف التهريب ثانياً، والتحرك خارجياً لاستعادة القطع المهربة».

القدس العربي